سعيد الحاج - الجزيرة نت 

على مدى الأسبوعين الفائتين كانت الحرائق -التي اشتعلت في عدد كبير من المحافظات التركية- الخبر الأول والشغل الشاغل للرأي العام التركي والمشهد السياسي الداخلي.

ورغم أن ردّ الفعل الطبيعي والغالب كان حالة من التضامن الوطني والتعاطف مع المتضررين من الفاجعة؛ فإن الحدث أشعل -أو أُشعلت على هامشه- معارك أخرى أثبتت تشابك الملفات في تركيا وارتباط كل حدث وأي حدث بالسياسة، تلقائيا أو افتعالا.

حرائق غير مسبوقة

ليست الحرائق حدثا غريبا في تركيا، وإنما أمر يتكرر سنويا لا سيما في فصل الصيف مرتفع الحرارة في عدد كبير من محافظاتها. فوفق المديرية العامة للغابات، شهدت تركيا 26 ألفا و311 حريق غابات ما بين عامي 2011-2020، وقد أتت على زهاء 90 ألفا و956 هكتارا من الأرض الحرجية.

إلا أن الحرائق التي شهدتها البلاد هذا العام (2021) -منذ نهايات شهر يوليو/تموز الفائت- تبدو غير مسبوقة بالنظر لعددها، ومساحات انتشارها، والمدة الزمنية التي استغرقتها، وكذلك الخسائر التي تسببت بها.

بدأت الحرائق في 28 يوليو/تموز، وانتشرت في عشرات المحافظات التركية متركزة في الشريط الساحلي للبحرين المتوسط وإيجه. وحتى لحظة كتابة هذه السطور؛ قضى 9 أشخاص في الحرائق، وأفرِغ عدد من القرى والأحياء في المدن من السكان التي أُجلوا إلى أماكن أكثر أمنا وبعدا عن الخطر، فضلا عن خسائر كبيرة جدا في الحيوانات -على مختلف أنواعها وفي مقدمتها النحل- وفي الثروة النباتية متمثلة بالمساحات الكبيرة من الغابات والمناطق المشجرة التي احترقت وتحول جزء كبير منها إلى رماد.

وإضافة إلى الخسائر البشرية والحيوانية والاقتصادية -وخصوصا أن المحافظات التي اشتعلت فيها الحرائق من المناطق السياحية المهمة ونحن في قلب الموسم السياحي بالبلاد- كان يمكن للحرائق أن تتسبب ببعض الكوارث الأخرى؛ فقد اقتربت النيران من مفاعل حراري في منطقة ميلاس بمحافظة موغلا، ثم دخلت محيطه، قبل أن تستطيع فرق الإطفاء إخماد الحريق ومنع تأثر المفاعل بشكل كبير ودون أضرار إضافية.

وفي الأثناء التي تعمل فيها الفرق الحكومية على إخماد الحرائق وفرق أخرى على إجلاء السكان وثالثة على حصر الأضرار تمهيدا لخطط الإعالة والتعويض؛ حالت ظروف الطقس -وخصوصا درجات الحرارة المرتفعة والرياح- دون إمكانية إخماد الحرائق بالكامل؛ بل إن حرائق جديدة نشبت في مناطق كانت فرق الإطفاء قد أخدمتها فيها سابقا، فضلا عن حرائق جديدة اندلعت بمناطق جديدة كذلك خلال عمليات الإخماد، ما جعل عدّاد الحرائق في تصاعد مستمر.

وبعد 11 يوما من الحرائق، أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن آخر إحصاءات الحرائق، بواقع 214 حريقا في 46 محافظة، مؤكدا إخماد 202 منها، بينما ما زالت أعمال الإطفاء مستمرة في 12 حريقا في 5 محافظات، ليعلن رئيس دائرة الاتصال في الرئاسة فخرالدين ألتون -بعد ذلك بساعات فقط في السابع من أغسطس/آب الجاري- أن عدد الحرائق وصل إلى 225 (في 47 محافظة)، أخمِد منها 220 وبقيت 5 فقط.

الحكومة والمعارضة

تميزت ردود الفعل الأولى على الفاجعة بحالة من التضامن الوطني والتعاطف مع المتضررين والتقدير الكبير للفرق العاملة في الميدان لإطفاء الحرائق، لكن الحدث كان له ارتدادات سياسية، كما هو معتاد في تركيا مؤخرا؛ إذ ما لبثت الحرائق أن تحولت لحالة جدل واستقطاب بين الحكومة والمعارضة وأحيانا أطراف أخرى، وكان ذلك أولا فيما يتعلق بأسباب الحرائق وثانيا -وهو الأهم- بخصوص جهود الحكومة لمنعها ثم إخمادها.

فالسردية الرئيسة والسبب الأغلب للحرائق هو الطقس، إن كان لجهة التأثيرات طويلة المدى للاحتباس الحراري التي تشمل متغيرات في المناخ/الطقس وتسبب آفات طبيعية، أو لظروف فصل الصيف التي ترفع من احتمال حدوث الحرائق. ومما يدعم هذا الرأي حدوث الحرائق في عدة دول أوروبية ومتوسطية، ومنها اليونان وإيطاليا ولبنان وسوريا.

ورغم ذلك، لقي احتمال أن تكون الحرائق مدبرة ومن صنيع حزب العمال الكردستاني رواجا كبيرا في وسائل الإعلام وخصوصا وسائل التواصل الاجتماعي، خاصة أن حزب العمال كان قد أعلن مسؤوليته سابقا عن بعض الحرائق، في محاولة لإفساد الموسم السياحي والضغط على الحكومة من زاوية الاقتصاد. كما أن الحكومة منعت التنزه في بعض الغابات تحسبا لهذا الاحتمال.

وقد استخدم البعض سردية الإرهاب هذه للإحالة على تقصير أمني في توقع الحرائق ومنعها، بينما وضعها البعض الآخر في سياق توجيه الرأي العام باتجاهات محددة، حيث اتهم أحد الإعلاميين -المعروفين بقربهم من الحكومة- حزب الشعب الجمهوري المعارض بـ"التنسيق مع العمال الكردستاني" بحيث أحرق الأخير الغابات وتكفّل الأول بانتقاد الحكومة عليها.

أردوغان نفسه قال إن احتمال الإحراق المتعمد قائم منذ البداية، وإن الجهات الأمنية والاستخباراتية تتابع الموضوع، لا سيما وقد أوقف عدد من الأشخاص بتهمة إشعال الحرائق. ولئن قال أردوغان "إن هناك بعض الإشارات" على تورط الكردستاني، إلا أنه أشار إلى أن الأمر لم يتأكد وأن الحكومة ستطلع الشعب على نتائج التحقيق حين ينتهي، وأنها لن تترك الجريمة -إن ثبتت- دون عقاب، مضيفا "سنحرق أكباد من حرقوا أكبادنا".

الانتقاد الآخر -وهو الأكثر رواجا- تعلق بمدى قدرة الحكومة على مواجهة الحرائق، والتي استمرت لمدة طويلة؛ فقد عدّت المعارضةُ الحكومة غير جاهزة لإطفاء الحرائق، مستثمرة تصريحا لهيئة الطيران التركية التي تحدثت عن أسطول جوي مكون من 20 قطعة فقط، بواقع 3 طائرات إطفاء حرائق و15 مروحية ومروحيتي إخماد حرائق، وهو رقم أقل بوضوح من أساطيل دول أخرى مجاورة ومعروفة بالحرائق كتركيا، مثل فرنسا وإيطاليا وإسبانيا واليونان، وفق تقرير لموقع "يورونيوز" (Euronews).

من جهته، قال أردوغان إن مهمة إخماد الحرائق من مسؤولية البلديات وليس الحكومة، ورغم ذلك فالأخيرة هي من تتولى المهمة. وقد تعاقبت التصريحات الرسمية التي أكدت على زيادة عدد الطائرات والمروحيات المستقدمة من عدة دول، فقال رئيس دائرة الاتصال بالرئاسة -في السابع من أغسطس/آب الجاري- إن 16 طائرة و52 مروحية و9 مسيّرات (طائرات بدون طيار) تشارك في إخماد الحرائق مؤخرا.

تركيا والخارج

أما المعركة الثالثة فدارت حول "صورة تركيا في الخارج"؛ حيث قبلت الأخيرة دعما ومساعدات مختصة بإطفاء الحرائق من عدة دول، وقد شكرها أردوغان رسميا خاصًا بالذكر روسيا وأذربيجان وأوكرانيا وإيران.

إلا أن الأيام الأولى من الحرائق شهدت أعدادا كبيرة من التغريدات بموقع تويتر على وسم "ساعدوا تركيا" (#helpTurkey) والذي وصل التفاعل معه لملايين في وقت قصير جدا. وكثيرون عدُّوا الأمر مدبرا لإظهار تركيا كدولة ضعيفة وعاجزة عن إخماد الحرائق وبالتالي هز صورتها أمام العالم. وقد رصد أحد الأكاديميين -إضافة لمغردين حقيقيين- نسبة لا بأس بها من التخطيط المنظم للترويج للوسم ورفعه على رأس قائمة تويتر في تركيا والعالم، من خلال حسابات وهمية وإعادة نسخ ولصق وغيرها من التقنيات.

وبعض المواطنين الأتراك -وخصوصا الموالين لحزب العدالة والتنمية- أطلقوا في المقابل وسوما مثل "تركيا قوية" (strong Turkey) أو "لا نحتاج مساعدة" (we don’t need help) من باب نفي العجز ورفض قبول المساعدات، وفي سبيل ما عدُّوه تثبيتا لمكانة بلادهم إقليميا ودوليا. والطريف أن نفس الأكاديمي رصد شيئا من التخطيط والتنسيق المصطنع في هذا الوسم كذلك. وقد امتدح الرئيس التركي الوسم الثاني قائلا "نحن أقوياء. خرج وسم "تركيا قوية" مقابل ذلك الوسم، وهذا الوسم الثاني لاقى رواجا وتغريدا أكثر منه بكثير".

خاتمة

في الخلاصة، تحولت حرائق الغابات -التي ما زالت مستمرة في تركيا منذ حوالي أسبوعين- إلى سجال سياسي في البلاد وخصوصا بين المعارضة والحكومة، ويمكن القول إنها ستكون امتحانا صعبا للأخيرة الآن وعلى المدى البعيد. ورغم أن هناك توقعات بإمكانية إخمادها كلها في وقت قريب -لا سيما بعد هطول الأمطار في مناطق الحرائق- فإن مدى كفاءة الحكومة وسرعتها في تعويض المتضررين وإعادة السكان لمناطقهم وإعادة إعمار المناطق وإنعاشها ستكون معيارا مهما لتقييم الحكومة وحزب العدالة والتنمية الحاكم.

ويمكن القول إن المعارضة كانت أقوى حجة في انتقاد الحكومة في هذه الآفة من المشاكل والملفات السابقة، خاصة أنها تخللها بعض الاضطراب وتناقض في تصريحات بعض المسؤولين، فضلا عن الخسائر الكبيرة التي ستتبدى بعد انتهاء مهمة الإخماد.

فإذا ما أضيفت هذه الآفة إلى جائحة كورونا والأوضاع الاقتصادية في البلاد وتطورات سياسية خارجية وداخلية أخرى؛ فإن ذلك يصعّب على العدالة والتنمية مهمته في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة، والتي هي بالنسبة له استثنائية وحساسة بكل المقاييس، بما لا يُقارن مع أي انتخابات سبقتها.

 

عن الكاتب

سعيد الحاج

باحث في الشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس