محمد قدو الأفندي - خاص ترك برس

العلاقة بين القراءة والنص هي علاقة تبادلية قائمة على التأثر والتأثير، فالقارئ يحاول باستمرار الكشف عن إشكالية المعنى النصي وعوالمه السيمائية ويطور من إمكاناته القرائية من جهة، ومن جهة أخرى يحسن من طريقته في القراءة ليكشف أسرار وجدانه ويحقق إطلالة على مناطق غامضة من شخصيته، فالنص عندما يؤثر في القارئ فإنه يحاول الغوص فيه فيتأثر به ويحاول إعادة إنتاجه.

هذه لمحة وجزء من رؤيا الناقد الأدبي الدكتور محمد صابر عبيد، والذي أغنى المكتبة العربية بالكثير من مؤلفاته النقدية الأكاديمية لكل أنواع الأدب منذ أكثر من أربعة عقود، إضافة إلى كونه قاصًا وشاعرًا وروائيًا.

التقيته في أنقرة حيث يزورها بصورة دورية، وأجريت معه لقاءً مطولًا تناولنا فيه الكثير من المواضيع التي تخص الأدب العربي والنقد ومراحل تطورهما، وقبل أن أوجز اللقاء المطول أقدم للقارئ الكريم نبذة عن حياته الأكاديمية وتجربته الإبداعية الأدبية والنقدية.

- دكتوراه في الأدب العربي الحديث والنقد عام 1991.

- حاصل على درجة الأستاذية عام 2000.

- أستاذ النقد الأدبي الحديث في الدراسات الأوليّة.

- أستاذ المناهج النقدية الحديثة والنقد التطبيقي في الدراسات العليا.

- أشرف على عدد كبير من رسائل الماجستير وأطاريح الدكتوراه داخل العراق وخارجه.

- أنجز أكثر من خمسين بحثًا علميًا نشر في المجلات الأكاديمية المحكّمة في مختلف الجامعات العراقية والعربية.

- نشر مئات المقالات والدراسات في مختلف الدوريات العربية.

- اختير محكّمًا في أكثر من مسابقة أدبية.

- عضو هيئة استشارية في بعض المجلات الأدبية.

- عضو الاتحاد العام للأدباء والكتاب العراقي والعربي أيضا وعضو اتحاد الكتاب العرب.

- حظي بالتكريم لعدة سنوات بوصفه أفضل أستاذًا متميّزًا في الجامعة في النشر والتأليف.

وحصل على العديد من الجوائز في العراق والدول العربية. وله الكثير من الكتب وكما أسلفنا في النقد والرواية والشعر ومنها:

- المتخيّل الشعري، أساليب التشكيل ودلالات الرؤية في الشعر العراقي الحديث دار الشوؤن الثقافية العامة، بغداد، 2000.

- القصيدة العربية الحديثة بين البنية الدلالية والبنية الإيقاعية، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2001.

- الشعر العراقي الحديث، قراءة ومختارات، أمانة عمان، عمان، 2002.

- جماليات القصيدة العربية الحديثة، منشورات وزارة الثقافة السورية، دمشق، 2005.

- عشب أرجواني يصطلي في أحشاء الريح، شعر، ديوان المسار - بغداد، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة عام 2006.

وغيرها الكثير من الكتب والروايات والدواوين.

وقد استفاد الكثير من الباحثين الجامعيين والأدباء من خبرته وكتاباته حتى أصبح عراب النقد وتقييم الشعراء والنتاجات الأدبية الروائية والقصصية والشعرية، وميّزته بذلك خبرته الإبداعية وحياديته العلمية الأكاديمية، وبعد هذه المقدمة المختصرة لنبدأ اللقاء مع الدكتور محمد صابر عبيد.

استطاع عدد من النقاد وخصوصًا نقاد الثقافة والأدب العام تسليط الضوء على روائع الفكر العربي والمصري في الشعر والقصة والرواية والمسرح، وهذا ما حفز القارئ الشاب على البحث وقراءة الأدبيات المعاصرة التي سبقت عصرهم من جديد، فما هو الدور الذي تقومون به في سبيل تحفيز القارئ على إعادة قراءة النتاجات الأدبية السابقة لعصره؟

لا يوجد عمرٌ محدّدٌ للنصّ الأدبيّ؛ بدليل أنّ أعمالا شعريّة صار عمرها الآن مئات الأعوام وما زالت قيد القراءة والاستمتاع والبحث والدرس النقديّ، وما زالت الكثير من الكشوفات تحصل في إعادة قراءة نصوص قديمة أو ما يصطلح عليها "كلاسيكيّة" بأدوات نقديّة حديثة، بمعنى أنّه كلّما تطوّرت أدوات التحليل والتأويل المنهجيّة النقديّة أسهمت في الكشف عن طبقات جديدة في النصوص الأدبيّة لم يتمّ الكشف عنها سابقًا، وهو ما يجعل النصّ الأدبيّ من الكثافة والعمق والخصب بحيث يبقى قابلًا لقراءات جديدة من دون توقّف. 

لذا على القارئ الشاب أن يضع في منهاجه القرائيّ قائمة واسعة وكبيرة بالنصوص المهمّة التي عليه قراءتها بصرف النظر عن عصرها وعمرها الزمنيّ، ولا بدّ من ذلك حتمًا كي يدرك هذا القارئ أنّ النصّ الأدبيّ هو سلسلة ممتدّة من النصوص لا تقف عند عصر أو حقبة أو مرحلة، تبدأ من أوّل نصّ عرفته البشريّة حتّى الآن بلا تفضيل لعصر على آخر أو مرحلة أدبية وثقافية على أخرى، فالنصّ الجيّد هو ابن العصور جميعًا، ولن يكون الأديب الشاب قادرًا على فهم جوهر النصوص الكبرى من دون أن يكون له اطلاع واسع على عموم التجربة الأدبيّة بمفاصلها المختلفة.

لا أملك ما أقول بشأن دوري الشخصيّ في إمكانيّة تحفيز القرّاء على إعادة قراءة النتاجات الأدبية السابقة لعصرهم، فعملي النقديّ هو عمل إجرائيّ يختصّ بدراسة النصوص الأدبيّة والسعي للكشف عن جماليّاتها ودورها في تطوير ذائقة التلقّي الأدبيّ، ويمكن لمن يتابعني ويقرأ كتابتي النقديّة أن يعرف بعض المداخل التي يمكن بوساطتها إدراك جوهر النص، ويدرك الأسلوبيّة التي تسهّل عليه التوصل بمكنونات النصّ وكنوزه الجماليّة عن طريق الإنصات لما يقوله الداخل النصيّ ويبوح به.

ليس لديّ مقاصد تنويريّة كبرى في القيام بدور طليعيّ واسع في قيادة حركة التنوير الثقافيّ والفكريّ، لأنّني ببساطة لا أملك مثل هذه القدرة والموهبة والكفاءة والرغبة في تمثيل هذا الدور الكبير، الذي يجب أن يضطلع به من يمتلك إمكانات استثنائيّة تؤهّله لتحقيق نتائج كبرى في هذا المجال، وشهدتْ مسيرة النهضة العربيّة في القرنَين التاسع عشر والعشرين أسماء لا حصر لها من كبار التنويريين العرب ممّن يوصفون عادةً بالنخبة، واستطاعوا فعلًا في ظلّ ظروف مناسبة القيام بدور استثنائيّ على هذا الصعيد، أمّا الآن فلا وجود لحركات تنويريّة من هذا الطراز في الوطن العربيّ لأنّ الوضع العام والخاص الذي يعيشه الإنسان العربيّ لا يسمح بهذا وغير معنيّ به البتةَ.

ما أسباب عزوف القارئ وخصوصا الجيل الجديد عن قراءة الروايات والدواوين الشعرية بصورة عامة، وهذا العزوف أدى إلى انسلاخه من بيئته وحاضنته التي تربي فيه ثقافته وفكره وتعامله؟

تسهم عوامل كثيرة جدًا شديدة التعقيد والتنوّع في موضوع عزوف القارئ العربيّ عن القراءة، فالأمر له علاقة بتطوّر المجتمع وتحضّره وتمدّنه ومستوى علاقته بالحضارة العالميّة وقد بلغت الآن أوجها، ففي ظلّ ما يحصل الآن من تطوّرات هائلة في مختلف صنوف العلم والمعرفة ووسائل التواصل الحديثة، ما زال الإنسان العربيّ يلعب دور المستهلك داخل فضاء اجتماعيّ متخلّف ورجعيّ وبدويّ، لا يسمح على الإطلاق بأن نكون نحن العرب أعضاء مسهمين في نادي الحضارة العالميّة اليوم.

تراجعت القراءة على هذا الأساس وتراجع الكتاب وتراجعت الثقافة وتراجع الفكر، وصار الإنسان العربيّ لا يقرأ "ربع صفحة" في العام الكامل بحسب استطلاعات سنويّة تقوم بها منظّمات متخصّصة تابعة للأمم المتّحدة، في حين يقرأ الفرنسي مثلاً عشرة كتب، والأميركي ثمانية كتب، والإنجليزي سبعة كتب، وهكذا، إذ كيف لنا أن نتحدّث عن وجود قارئ عربيّ في ظلّ وجود قوافل من الشعراء والقصاصين والروائيين والنقاد، ولا يستطيع أيّ منهم أن يعيش حياة كريمة من عائدات كتبه ومنشوراته ونشاطاته الثقافية الأخرى! 

فالأمر على هذا النحو بالغ الارتباك واليأس والتشاؤم بحيث لا توجد بارقة أمل واحدة تنبئ بإمكانيّة تحسّن الحال، بل على العكس من ذلك ثمّة ما يوحي بانحدار أكثر يضاعف من حجم هذا السوء ويجذّره على نحو مفجع، حتّى صار علينا أن نخشى على هذه اللغة الجميلة الرائعة الأصيلة من الاندثار والغياب.

أمّا حول قضية انسلاخ الشباب من حواضنهم وبيئاتهم فالأمر مرهون بهذه البيئات والحواضن التي كفّت عن موضوع التربية، وصارت حلبة صراعات تخلو من عناصر الثقافة والوعي والمعرفة والتاريخ والفكر وغيرها، فالشباب الآن بلا أمل يتحرّكون في فراغٍ قاسٍ لا يرحم وقد يكونون الضحيّة الأكبر، ولعلّ القراءة هي قارب النجاة الوحيد من هذا المصير القاتم المظلم لأنّها سلاح الثقافة والوعي والفكر والتقدّم والتحضّر، وهذا الأمر يحتاج إلى منظومة متكاملة فاعلة "سياسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة وحضاريّة" تعيد تقويم الأشياء وبعثها من جديد، لكنّ المشكلة الحقيقيّة أنّ مثل هذه المنظومة تشتغل بأعلى كفاءتها في مناطق كثيرة من العالم المتحضّر، أمّا عندنا فللأسف الشديد تتراجع على نحو مرعب، ومع كلّ هذا الكمّ الهائل من اليأس والإحباط أنا شخصيّاً لا أملُّ من عناق طيف الأمل صادقاً ومُصدّقاً. 

يعاني الكثير من الكتاب الشباب من الإحباط، وخصوصا الذين يحاولون ترجمة أفكارهم شعرا من قيد الوزن والقافية فيتجهون إلى القصيدة النثرية، لكن معظم تلك القصائد أو الكتابات لا ترقى لمستوى القصيدة ولكنها تبقى في خانة الخواطر، نتمنى أن نعرف ماهي القصيدة النثرية وكيف تطورت وهل هناك مدارس لها وبماذا تتميز؟

يمكن النظر إلى "قصيدة النثر" بوصفها تطورًا طبيعيًا –متأخرًا كثيرًا- في المسيرة الشعريّة العربيّة، وقد بدأت هذه الشعريّة العربيّة مع "قصيدة الوزن" منذ العصر الجاهليّ كما هو معروف؛ ومن ثمّ انتظرت أكثر من ألف عام حتّى انتقلت إلى التطوّر الأوّل في ما اصطلح عليه "قصيدة التفعيلة"، وجاءت "قصيدة النثر" كي تكون آخر مرحلة في سلّم التطوّر الفنيّ في مسيرة الشعريّة العربيّة، وهي القصيدة التي تخلّصت من قيد الوزن والقافية واستعاضت عنهما بما تنطوي عليه اللغة العربيّة أصلاً من طاقات إيقاعيّة كامنة، فاللغة العربيّة بطبيعتها لغة موقّعة يمكن للشاعر الذكي الموهوب استثمار إمكاناتها وصوغ قصيدة نثر كبيرة قادرة على الإدهاش.

قلتُ في أكثر من مناسبة إنّ شاعر قصيدة النثر يجب أن يكون ابنًا شرعيًا للتراث الشعريّ العربيّ بأكمله، بمعنى أنّ عليه أن يقرأ تجربة الشعريّة العربيّة في عصورها كلّها قراءة فاحصة عارفة تحيط بالتجربة من جوانبها كافّة، ومن ثمّ يجب أن يكون عارفًا بأسرار القصيدة العربيّة وتجلّياتها في مراحلها كلّها وبأدقّ دقائقها، ويدرك ما حققته من إنجازات على الأصعدة الفنيّة والجماليّة والثقافيّة والفكريّة والحضاريّة والإنسانيّة، ويتشبّع بالإيقاع العربيّ التقليديّ وزنًا وقافيةً وحساسيّة؛ من أصغر وحدة إيقاعيّة حتّى أعقد وحدة، عند ذلك يكون بوسعه الدخول إلى حقل قصيدة النثر بوصفه الحقل الأصعب من حقول هذه القصيدة.

ما يكتب الآن على أنّه "قصيدة نثر" شيء مروّع حقًا، إذ كلّ من سطّر على حسابه الفيسبوكي مجموعة من الكلمات المتناثرة وأعجب به كثيرون ممّن هم على شاكلته، اعتقد واهمًا أنّ ما كتبه شعر حقًا؛ وهو لا يعدو خربشات لا قيمة لها أبدًا، فقصيدة النثر أصعب من قصيدة الوزن وقصيدة التفعيلة بكثير، فإذا كان ربع ما يُكتب من شعر وزن هو جيّد ومقبول، ونصف ما يكتب من شعر تفعيلة هو كذلك أيضًا، فإنّ نسبة الشعر الجيّد من قصيدة النثر أقلّ من ذلك بكثير جدًا، إذ كيف على شاعر قصيدة النثر أن يتخلّى عن الوزن والقافية وهما مساعدان كبيران وجاهزان لإنجاز القصيدة، ويأتي على الرغم من ذلك بقصيدة تحقّق الحدود الشعريّة المعروفة وتقنع القارئ بأنّ ما يقرأه شعرًا.

 لا شكّ في أنّ الأمر في غاية الصعوبة والتحدّي على النحو الذي يشجّعني على القول بأنّ جلّ ما يُكتب تحت لافتة قصيدة النثر ليس سوى هراء، ولا يمتلك أدنى حدود الشعريّة الواجبة للنصّ الشعريّ، فمثل هذه الكتابة في أحسن أحوالها مجرّد خواطر رومانسية عابرة لا علاقة لها بالشعر لا من قريب ولا من بعيد أبدًا.

 

نختم لقاءنا ونتقدم بالشكر الجزيل للأديب الدكتور محمد صابر عبيد على سعة صدره وأجوبته النموذجية الرائعة.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس