د. علي حسين باكير - عربي 21

اعتبر رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي، بوب منينديز، أنّ المسيّرات التركيّة بمثابة مسألة أمن قومي عندما قال إنّ مبيعات المُسيرّات التركية خطيرة وتزعزع الاستقرار وهي بمثابة تهديد للسلام وحقوق الإنسان. وأعلن منيديز قبل أيام قليلة عن اقتراح تعديلات على قانون الدفاع الوطني المتعلق بنفقات الدفاع للعام المالي ٢٠٢٢ وذلك من خلال مشروعي قانونين إضافيين أشار فيها إلى ضرورة مراقبة برنامج المسيّرات التركية وتقديم وزارتي الخارجية والدفاع تقارير دورية عن صادرات المسيّرات التركية منذ عام ٢٠١٨، والتحقّق مما إذا كانت المسيرات التركية تحتوي على أجزاء أو تقنيات تنتجها شركات أمريكية، ومنعها في حال تبيّن أن هناك أي قطع أمريكية.

وقال منينديز في مشروع القانون، إنّ "المسيرات التركية لعبت دورًا حاسمًا في الحرب بين أرمينيا وأذربيجان العام الماضي، ومنذ ذلك التاريخ فقط اشترت كل من بولندا والمغرب وأوكرانيا طائرات بيرقدار "تي بي 2"، وتبدي العديد من الدول اهتمامًا بما فيها أنغولا وإثيوبيا والنيجر ونيجيريا ورواندا". البعض فسّر موقف منينديز بأنّه نابع من تأثّره بعمل اللوبيات الأرمنيّة واليونانية التي تمارس ضغطاً قوّياً في واشنطن ضد تركيا إلى جانب لوبيات أخرى مثل إسرائيل والإمارات. 

وإن كان مثل هذا التفسير صحيحاً، إلاّ أنّه يجب النظر إلى الموقف الأمريكي بمجمله، وهو موقف يستهدف تقويض قدرات تركيا العسكرية من خلال حرمانها مما من شأنه أن يساعد على تحقيق استقلالية قدراتها العسكرية لاسيما في التكنولوجية الحسّاسة. الأزمة المفتعلة إزاء مقاتلات (أف ـ ٣٥)، تعدّ مثالاً صارخاً على ذلك. 

خلال الأعوام القليلة الماضية، تذرّع عدد كبير من المسؤولين والخبراء والمحللّين بشراء تركيا نظام الدفاع الصاروخي لتبرير حرمان واشنطن لأنقرة من حصولها على مقاتلات (أف-٣٥) وإنزال عقوبات بحقّها. لكنّ تقديم المشرّعين الأمريكيين طلبات إعفاء من العقوبات مؤخراً في الكونغرس للهند لشرائها نفس المنظومة الروسية التي حصلت عليها تركيا (أس ـ ٤٠٠)، يشير إلى أنّ الموضع لا يتعلق بحقيقته بروسيا وإنما بقدرات تركيا الصاعدة.

الولايات المتّحدة تريد تقييد الاستقلالية المتزايدة لأنقرة على صعيد قرارات السياسة الخارجية والقدرات العسكرية. ولتحقيق ذلك، تسعى واشنطن منذ فترة إلى زيادة الضغط على تركيا بكل السبل الممكنة لاسيما في المواضع الحسّاسة ذات الطابع الاقتصادي أو العسكري. 

وتمتلك تركيا ثاني أكبر جيش في حلف شمال الأطلسي بعد الولايات المتّحدة، ولا تزال تحتفظ بمرتبة ثالث أكبر مشغّل لمقاتلات أف ـ ١٦ في العالم بعد الولايات المتّحدة وإسرائيل، علاوةً على كونها واحدة من بين دول خمس دول في العالم فقط تنتج المقاتلة محلّياً بترخيص من لوكهيد مارتن الأمريكية. وعلى الرغم من التحديثات التي كانت أنقرة قد أدخلتها على قوتها الجوّية خلال العقدين الماضيين، إلاّ أنّ أسطول مقاتلتها كان قد بدأ يشيخ، ولذلك، فقد كانت الخطّة تقتضي استبدال مقاتلة (أف-٣٥) المتعددة المهام من الجيل الخامس الأكثر تطوراً في العالم بهذا الأسطول. وخططت تركيا لشراء ١٠٠ مقاتلة، وانخرطت فعلياً في برنامج إنتاج المقاتلة، ودفعت مقدّماً ثمن عدّة مقاتلات. 

عندما حان موعد تسليم أولى المقاتلات من طراز (أف ـ ٣٥)، قام الكونغرس بتقديم طلب تجميد التسليم، وتحوّل لاحقاً الى إلغاء التسليم، ثمّ تطورّ الى طرد تركيا من برنامج إنتاج المقاتلة، وصولاً إلى فرض عقوبات على أنقرة. أمّا الذريعة التي تمّ استخدامها لتبرير ذلك فقد كانت شراء أنقرة لمنظومة الدفاع الصاروخي الروسية الصنع (أس ـ ٤٠٠)، وإمكانية نقل معلومات حسّاسة عن المقاتلة إلى موسكو. لكنّ عدداً من التطورات اللاحقة تُفنّد هذه الذريعة بما لا يترك مجالاً للشك في نوايا واشنطن من بينها المطالبة باستثناء الهند من العقوبات إزاء شرائها نفس المنظومة.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه، ما هي البدائل المتوافرة لدى تركيا في حال تمّ حرمانها من (أف ـ ٣٥) بشكل نهائي مستقبلا؟ لدى أنقرة القدرة على إطالة حياة أسطول مقاتلاتها من (أف ـ ١٦) من خلال قدراتها المحلّية أو من خلال الاستعانة بالقطع التي كانت قد خزّنتها في مرحلة ما قبل العقوبات، لكنّ هذا الحل لن يعوّضها عن مقاتلة من الجيل الخامس في وقت بدأت فيه دول عديدة تطوّر قدراتها الجوية من بينها إسرائيل التي حصلت على المقاتلة من أمريكا، والإمارات التي تقدّمت بطلب لشرائها، واليونان التي تسعى إلى شرائها أيضاً فضلاً عن حصولها على مقاتلة رافائيل الفرنسية. 

وبالرغم من أنّ خطّة تركيا إنتاج مقاتلة محلّية الصنع من الجيل الخامس (تي أف أكس) تسير بشكل إيجابي مع إعلان شركة (تاي) المسؤولة عن المشروع إنتاجها أمس بشكل رسمي القطعة الأولى من أصل ٢٠ ألف قطعة ستُشكّل المقاتلة المنتظرة، إلا أنّ الموعد المعلن لإنتاج المقاتلة طموح للغاية ومن المتوقع أن يتطلب إنتاجها وقت أكبر وهو ما يعني أنّه ستكون هناك فجوة زمنية بين توقيت إعلان تقاعد أسطول مقاتلات (أف-١٦) ودخول مقاتلة تركيا محلّية الصنع (تي أف أكس) الخدمة، وهي فجوة قاتلة قد تهدّد بتقويض قدرات تركيا الجوية الهجومية.

أمّام هذا الواقع، برز خيار إمكانية التوجّه إلى روسيا للحصول على مقاتلتها من الجيل الخامس من طراز (أس يو ٥٧)، لكن هذا الخيار ينطوي على مخاطر عظيمة وتكاليف عالية جداً ولذلك فقد حاولت أنقرة استخدامه كمناورة للضغط باتجاه السماح لها بالحصول على مقاتلات (أف ـ ٣٥)، لكن عناد الجانب الأمريكي وإصراره على المسار الخاطئ دفع تركيا إلى بحث خيار آخر قد يكون الأخير قبيل توجّهها مجدداً إلى روسيا.

تركيا اقترحت شراء مقاتلات (أف ـ ١٦) الشهر الماضي، ويبدو أنّ هذه الورقة تستهدف تحقيق خرق في إدارة الأزمة بين الطرفين، ومد عمر أسطولها بشكل أكبر إلى حين إنتاج مقاتلتها المحليّة ما لم يتم السماح لها بالحصول على (أف ـ ٣٥)، وتحقيق تقدّم في التعاون السياسي والدفاعي في أمريكا بعد عقد من التراجع الكبير.

 

إلى أي مدى من الممكن لهذه الخطوة أن تنجح؟

شخصياً، لست متفائلاً بشكل كبير في ظل سياسة التسويف والمماطلة الأمريكية. ولو افترضنا أنّ الرئيس الأمريكي يحمل نوايا إيجابية تجاه هذا المقترح، فستبقى عقبة الكونغرس الذي يخضع للوبيات أقلّوية قائمة، وسيكون من الصعب حلّها إذا كانت العقليات الموجودة ستتصرّف بأسلوب منينديز، لكن آمل أن أكون مخطئاً.

 

 

عن الكاتب

د. علي حسين باكير

مستشار سياسي - باحث في العلاقات الدولية والشؤون الاستراتيجية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس