د. سمير صالحة - تلفزيون سوريا

أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، قبل يومين، أنّ هدف حكومته هو الدفاع عن مستقبل المواطنين الأتراك وعملهم ولقمة عيشهم. وأن "قيمة الفوائد المصرفية ستنخفض، لن ندع الفوائد تسحق شعبنا ومزارعينا.. مهما فعلوا لن نتراجع عن الإنتاج وخلق فرص العمل وعن برنامجنا الاقتصادي المعلن". بالمقابل يذكرنا بعض الإعلاميين الأتراك اليوم بما قاله ثعلب السياسة التركية سليمان دميرال إبان الأزمة الاقتصادية التي شهدتها البلاد عام 2001 إن كل أزمة اقتصادية سيعقبها الثمن السياسي الواجب تقديمه. وهذا ما حدث وقتها عندما تلقى الائتلاف الحاكم بقيادة بولند أجويد ضربة قوية أطاحت به وحملت حزب العدالة والتنمية إلى السلطة.

خسرت الليرة التركية كما تقول بعض الأرقام 30 بالمئة من قيمتها منذ مطلع الشهر الحالي وأكثر من 65 بالمئة من قيمتها منذ بداية العام و45 بالمئة خلال الأعوام الثلاث الأخيرة. الاصطفافات الحزبية والسياسية الداخلية في ذروتها بسبب الأزمة المالية القائمة وارتداداتها التي تتضاعف يوما بعد آخر دون أن تجد لها حكومة العدالة والتنمية حلا بعد. تبعات ذلك لن تكون اقتصادية فقط بل حزبية وسياسية أيضا.

الجديد في تطورات المشهد السياسي والاقتصادي هذه المرة هو دخول مجلس الأمن القومي التركي على الخط في توجيه الرسائل بعد اجتماعه الأخير. هل سيكون لها تأثيرها على المواطن والأجواء السياسية المشحونة باتجاه التهدئة وفتح الطريق أمام مسار جديد لإخراج البلاد من أزماتها؟

رؤيتان اقتصاديتان تناقشان في تركيا اليوم: ما يتمسك به الحزب الحاكم حول أن خط المواجهة الأول هو مع أسعار الفوائد المصرفية الواجب تخفيضها بكل الوسائل، وما تردده المعارضة المدعومة بتحليلات كثير من الخبراء الاقتصاديين الذين يدعون لإطلاق سراح نظام الفائدة لأن المعركة ستحسم من تلقاء نفسها عندما تستقر أسعار صرف العملات المواكب لها خطوات وتدابير تفتح الطريق أمام تنشيط بقية القطاعات التجارية والاقتصادية والاستثمارية في البلاد.

نحن نناقش مسألة تداخلت فيها العوامل السياسية والاقتصادية والنفسية. وهناك عامل الوباء كورونا الذي انعكس على أرقام القطاع السياحي والتجاري بشكل سلبي في الأشهر الأخيرة. لكن هناك أقلام وأصوات عديدة تتساءل أيضا من هم الأشخاص والقوى الخارجية التي تخوض الحكومة ضدهم حرب الاستقلال الاقتصادي ويتآمرون على البلاد ولماذا لم يتم الكشف عنهم والتشهير بهم حتى الآن؟

هناك حقيقة أخرى تقول إن تحولات حزبية وسياسية جذرية حدثت في تركيا خلال الأعوام الثلاث الأخيرة شئنا أم أبينا وهي مرتبطة مباشرة بتغيير شكل النظام من البرلماني إلى الرئاسي. قبل أعوام لم تكن المعارضة تتجرأ على طرح المسائل الاقتصادية والاستثمارية العملاقة على طاولة النقاش، أما اليوم فسلاحها الأقوى هو الاقتصاد والأزمات المعيشية ودعوة الحزب الحاكم للإجابة على سؤال: تركيا بين الدول العشرين الأقوى اقنصاديا في العالم هل ستستطيع المحافظة على مقعدها هناك؟

رغم تمسك استطلاعات رأي عديدة محسوبة على الحزب الحاكم بمحافظته على ثقله الشعبي والجماهيري فآخر استطلاعات الرأي لشركات مقربة من المعارضة تشير إلى تراجع أصوات العدالة ووصولها لنسبة 26 بالمئة بالمقارنة مع 46 بالمئة عام 2016 و38 بالمئة عام 2017 و30 بالمئة عام 2018. قد تكون هناك مبالغة في التقديرات لكن الأرقام التي تقول إن مستوى دخل الفرد السنوي تراجع من 12 ألف دولار إلى 8 آلاف في الآونة الأخيرة، وأن أرقام الودائع المالية بالدولار في المصارف التركية وصلت إلى 58 بالمئة وتكاد تصل إلى أرقام ما كانت عليه عام 2001 وهي نسبة 61 بالمئة وأن أصحاب الدخل المحدود الذين دعموا الحزب الحاكم حتى الأمس هم الأكثر تضررا في هذه الأزمات وأنهم هم الذين سيحددون مسار الأمور بعد الآن مقلقة لتحالف الجمهور ولا يمكن تجاهلها طبعا.

تضع استطلاعات الرأي التركية منذ أشهر أيضا مسألة الأوضاع الاقتصادية والمعيشية على رأس لائحة أولويات اهتمام المواطن التركي، بعكس ما كانت عليه في السابق مع مسائل الأمن والتعليم والصحة. وأحزاب المعارضة تستغل كل ذلك إلى جانب رفض تقديم مسألة مسؤولية المصرف المركزي في الأزمة المالية أو أن المواجهة هي بين الحكم وقوى الشر التي تتأمر على تركيا وحكومة العدالة كما تردد الأخيرة دائما، وتتمسك بإبراز أرقام الديون والتراجع في التجارة الخارجية و"حرائق المطابخ". هي تريد التسديد باتجاه استهداف "كعب أخيل" الحزب الحاكم وسعر صرف الدولار وأرقام الغلاء والتضخم.

هناك من يحاول إقناع الرئيس أردوغان بعدم التراجع عن قرار إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية في موعدها بعد عامين وأن هذه الفترة الزمنية هي التي ستساعد الحزب على مواجهة كل مشكلاته وبالتالي البقاء على رأس السلطة لحقبة جديدة. لكن كثيرا من استطلاعات الرأي تقول كلاما مشابها لما تقوله أحزاب المعارضة.العدالة والتنمية وقياداته أمام امتحان صعب والمسألة لم تعد انتظار صيف ما بعد عامين. وضرورة الفصل بين حقبة 2002 تاريخ وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم وبين ما بعد عام 2018 وتغيير شكل النظام في تركيا والدخول في أكثر من أزمة اقتصادية ومالية وسياسية لا يمكن تحميل وباء كورونا وحده المسؤولية فيها.

مشكلة المعارضة التركية كبيرة أيضا. فحزب الشعب الجمهوري أقوى أحزاب المعارضة لا يمكنه الاقتراب من أرقام شعبية حزب العدالة والتنمية حتى ولو تقدم ائتلاف المعارضة على ائتلاف الجمهور في الحكم. الأرقام نفسها تقول إن أحزاب المعارضة لا يمكنها تسلّم السلطة إلا في إطار ائتلاف حزبي يجمع 4 أحزاب كبرى على الأقل وإن فرصها في البقاء مطولا ستكون صعبة جدا بسبب تباعد السياسات والطروحات والشعارات المرفوعة.

تداعيات تراجع قيمة الليرة التركية لن تتوقف عند الاقتصاد بل ستصل إلى المسائل الاجتماعية والسياسية. وكثير من الخبراء والسياسيين يرون أن المشكلة الحقيقية ينبغي البحث عنها في مكان آخر غير تحميل المسؤولية لأسعار الفائدة المصرفية وحدها. حيث تم ارتكاب العديد من الأخطاء في التخطيط والتنفيذ في مسائل اجتماعية ومالية وتجارية وخطط استثمار بطابع دولي مرتبطة مباشرة بنظام الخصخصة وارتداداته والواجب التعامل معها بسرعة وحسم.

كان أنصار حزب العدالة يعولون على حركة تصحيحية تجديدية في الحزب تقود حملات التغيير في كثير من الأمور الداخلية والخارجية واسترداد ما فقده من شعبية وأصوات في العامين الأخيرين عبر الذهاب وراء ورشة عمل سياسية ودستورية واقتصادية شاملة، لكن النقاشات تتقدم باتجاه آخر يقلص الخيارات ويتطلب سرعة اتخاذ القرارات لمواجهة أكثر من سيناريو مقلق بطابع اقتصادي ومالي وسياسي.

إجماع في صفوف العديد من المراقبين والمتابعين للشأن التركي على أن الوقت بدأ يضيق والمساحة الزمنية الفاصلة عن موعد الانتخابات التركية المقررة في صيف عام 2023 بدأت تتقلص وأن حزب العدالة والتنمية وقياداته أمام خيار لا مفر منه يتطلب وضع استراتيجية تحرك متعددة الجوانب والأهداف لإخراج البلاد من أزماتها الاقتصادية والمالية والمعيشية. هذا الطرح له ارتباطه بعدم نجاح المعارضة في تفعيل خطة محاصرة الحزب الحاكم بقرار الذهاب المبكر إلى الصناديق كما يردد كمال كيليشدار أوغلو، وإلا فإن حزب العدالة سيجد نفسه عندها أمام حتمية اتخاذ قرارات أصعب للخروج من معركة الاستقلال الاقتصادي التي أعلن أنه يخوضها في مواجهة المتآمرين على تركيا من الداخل والخارج.

أطلق حزب العدالة والتنمية الحاكم سياسة تركية خارجية جديدة في الأشهر الأخيرة بدأ يجني ثمارها لكن مشكلته في الداخل مع طرح استراتيجية تحرك مشابه تتطلب اتخاذ قرارات حاسمة كي لا تتعقد الأمور أكثر ويستحيل لملمة ما تبعثر.

فرص الحزب الحاكم للبقاء وراء دفة القيادة ما زالت كبيرة جدا لكنها كما يردد البعض ستكون مرتبطة بمدى قبوله إجراء تغييرات جذرية في شكل النظام الرئاسي الذي تبناه قبل عامين وضرورة الفصل بين  منصب رئاسة الحزب ورئاسة الدولة وتفعيل مؤسسة العمل الوزاري ودور البرلمان في المشاركة السياسية الأوسع فهل يرضى الحزب وقياداته الدخول في نقاشات من هذا النوع؟

 

عن الكاتب

د. سمير صالحة

البرفسور الدكتور سمير صالحة هو أكاديمي تركي والعميد المؤسس لكلية القانون في جامعة غازي عنتاب وأستاذ مادتي القانون الدولي العام والعلاقات الدولية في جامعة كوجالي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس