د. علي حسين باكير - عربي 21

في العام ٢٠٠٢، فجّر حزب العدالة والتنمية مفاجأة كبرى في تركيا حينما نجح في حصد أغلبية مقاعد البرلمان في الانتخابات التي أجريت في ذلك العام. مكمن الاستغراب حينها لم يقف عند حقيقة أنّ الحزب كان قد تأسّس قبل حوالي عام واحد فقط من تلك الانتخابات، بل تعدّاه إلى كونه أوّل حزب يحصد أغلبية تؤهّله للقيام بتشكيل الحكومة منفرداً في تركيا. 

مع نهاية العام المقبل، أي في العام ٢٠٢٢، سيكون الحزب قد أمضى قرابة ٢٠ سنة في السلطة. يمكن الادعاء بأنّ هناك ثلاثة عوامل رئيسية ساعدت الحزب على البقاء في السلطة طيلة هذه المدّة لعلّ أبرزها الاقتصاد، والسياسة الخارجية، وعدم كفاءة أحزاب المعارضة. 

التغييرات الاقتصادية التي أحدثها حزب العدالة والتنمية لاسيما خلال العقد الأوّل من حكمه ضمنت له توسيع قاعدته الشعبية إلى خارج دائرة مؤيّديه المباشرين، كما حققت للبلاد نقلة نوعية من الناحية المالية والاقتصادية استطاعت الحكومة على إثرها حذف بعض الأصفار من قيمة العملة وتسديد كل الديون المستحقة على البلاد لصندوق النقد الدولي والتحوّل إلى مُقرض وإقرار المزيد من المشاريع العملاقة في مجال البنى التحتية والخدمات وإيجاد المزيد من الوظائف وفرص العمل للشباب. 

لكن مع اندلاع الثورات العربية، بدأت الأوضاع تتغيّر، وازدادت الضغوط على الاقتصاد المحلي جراء تراجع حجم التجارة مع الإقليم وارتفاع حدّة التوترات مع العديد من القوى الإقليمية والدولية. كما زادت التهديدات الأمنية الداخلية والإقليمية من التكاليف والأعباء المالية. وبالرغم من ذلك، فقد ظلّ حزب العدالة والتنمية يوظّف نجاحاته الاقتصادية خلال العقد الأوّل من حجمه في العقد الثاني. العام ٢٠١٥، كان بمثابة جرس إنذار للحزب، إذ إنّ أسهم الحزب بدأت تتراجع منذ ذلك الوقت مترافقة مع تزايد الخلافات بين أقطاب رئيسية داخل الحزب.

ولأوّل مرة بعد الانتخابات التي أجريت حينها، خسر حزب العدالة والتنمية الأغلبية المطلقة، واضطر إلى الدخول في تحالف مع حزب الحركة القومية لتأمين الأغلبية. دخلت شريحة من مناصري الحزب حينها في حالة إنكار مع الذات، تلا ذلك التعرّض لأوّل هزّة مالية عنيفة في العام ٢٠١٨ مع انهيار سعر صرف العملة.

كل الإجراءات التي تمّ إتخاذها منذ ذلك الوقت لم توقف التراجع السريع في سعر صرف العملة. لقد كانت الإجراءات بمثابة مُسكّن ولم تتضمن تغييراً جذرياً للفكر الاقتصادي غير التقليدي المتّبع والذي يرعاه رئيس الجمهورية. أثارت هذه السياسات حفيظة عدد من المسؤولين الاقتصاديين في البلاد وقد كلّفهم ذلك في نهاية المطاف مناصبهم التي شغلوها.  

خلال الشهرين الماضيين، تعرّضت الليرة مرّة أخرى لانهيار كبير. خسر الكثير من المودعين ـ الذين حافظوا على الليرة دعماً للحكومة ـ مدّخراتهم أو الجزء الأكبر منها. تعب سنوات طويلة تبخّر في فترة وجيزة للغاية، وقد ترافق ذلك مع ارتفاع أسعار السلع وارتفاع نسبة التضخم وارتفاع نسبة البطالة.

وبالرغم من أنّ رئيس الجمهورية كان قد أعلن الأسبوع المنصرم عن حزمة من الإجراءات القوية ضمن خطّة الإنقاذ التي تهدف إلى تحقيق استقرار في سعر الصرف وتعويض المتضرّرين الذين أبقوا على الليرة حتى حينه، إلاّ أنّ كثيرين فقدوا ثقتهم بالسياسة المتّبعة، ومنهم من رأى أنّ هذه الإجراءات متأخرة جداً ولن تصمد على المدى الطويل على الرغم من استعادة الليرة لبعض الخسائر التي كانت قد تعرضت لها.

قبل قرابة العام ونيّف، أي في تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٢٠، استقال صهر الرئيس براءة البيرق من منصبه كوزير للخزانة. لقد كانت تلك اللحظة بمثابة فرصة ذهبية للحكومة لتغيّر من سياساتها الاقتصادية بشكل جذري وتنسب الفشل في تحقيق الاستقرار في سعر صرف العملة وتبعاته إلى الوزير الراحل بينما تقوم بالاستدارة. لكن تمّ تفويت هذه الفرصة الذهبية والإصرار على نفس النهج. النتيجة اليوم سلبية للغاية في ما يتعلق بنظرة الجمهور لما يجري. المعارضة تشعر بهذا الغضب وتريد استغلاله وتوظيفه في حساباتها السياسية.

أمام هذا الواقع، استأنفت المعارضة مطالبتها الحكومة بإجراء انتخابات مبكّرة. هل يعني ذلك أنّه من الممكن أن يخسر الحزب المزيد من المقاعد في حال أجريت الانتخابات اليوم؟ نعم من الممكن أن يحصل ذلك. هل سيكون ذلك بفعل قوّة أحزاب المعارضة؟ على الأرجح لا. أحزاب المعارضة لم تقدّم حتى هذه اللحظة ما يخوّلها الظفر بالسلطة، إلا أنّها تسعى إلى جمع أصوات الغاضبين أو الناقمين الذين يريدون التصويت ضد حزب العدالة والتنمية. شعبية حزب العدالة والتنمية الآن ليست في أحسن أحوالها مقارنة بما كان عليه الوضع في عصر الحزب الذهبي.

المشكلة الأكبر بالنسبة للحكومة هي أنّ الفترة الفاصلة بين الوضع الحالي وموعد الانتخابات المقبلة في العام ٢٠٢٣ قصيرة. الإجراءات المتّخذة تحتاج إلى الوقت لتحقيق التوازن المطلوب. علاوةً على ذلك، فإنّ العوامل الأخرى التي تراهن عليها الحكومة وتتضمن مستوى أعلى من الاستقرار في العلاقة مع المحيط الإقليمي، وزيادة في حجم التبادل التجاري والاستثمارات، تتطلب وقتاً معقولاً حتى تبدأ بحصد النتائج الإيجابية في حال كانت رهاناتها صائبة.

باختصار، الاقتصاد وليس أي من أحزاب المعارضة سيكون المنافس الأبرز لحزب العدالة والتنمية خلال المرحلة المقبلة. وكما كان الاقتصاد العامل الأبرز في نجاح حزب العدالة والتنمية وإبقائه في الحكم طوال تلك المدّة، فإنّه سيكون العامل الأبرز في تهديد سيطرة الحزب على البرلمان والحكومة، وتالياً على مستقبل الحزب والقائمين عليه.

عن الكاتب

د. علي حسين باكير

مستشار سياسي - باحث في العلاقات الدولية والشؤون الاستراتيجية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس