علي حسين باكير - عربي 21

لا يستطيع أي منصف أن يقول بأنّ أكراد المنطقة لم يعانوا خلال العقود الماضية إبان مرحلة نشوء الدول القوميّة، التي قامت على أنقاض الامبراطورية العثمانيّة بعد الحرب العالمية الأولى، واتفاق سايكس-بيكو سيء الذكر.

لكن ما تمّ ذكره هو نصف الحقيقة فقط، فالحقيقة الكاملة تقول إنّ شعوب المنطقة عانت بقدر معاناة الأكراد وأكثر، فكان مدّعو القومية العربية أكثر من أضر العروبة فكرة ومضمونا، فلا دولة قومية نشأت حقيقةً ولا أخذ أي من الأقوام حقّهم في هذه "الدول" التي امتدت من المحيط الى الخليج. وها هي اليوم دول وأنظمة وحكومات وجيوش ومرتزقة تدار بأكملها عبر موظّف واحد قابع في طهران.

لقد استُغِلَتْ واستُخدِمت الفكرة القوميّة في ذلك الوقت كورقة من قبل أطراف مختلفة كما تستخدم وتستغل الهوية الطائفيّة الآن في المنطقة، وفكرة أنّ الأكراد اضطهدوا لكونهم أكراداً ليست دقيقة بما فيه الكفاية، فهذا السفّاح الأب قتل في سوريا في مجزرة واحدة فقط حوالي 40 ألفا من المدنيين الذين اضطروا لسوء حظّهم أن يعانوا لانه استخدم الذبح وادّخر الكيماوي لابنه السفّاح الذي استخدمه العام الماضي. لقد كان أهل حماة من العرب الأقحاح ولم يكونوا كردا أو فرسا أو تركا، وقس على ذلك في جميع الدول العربية. وصولاً إلى أم الدنيا حيث فتك عبدالناصر بالإسلاميين وقد كانوا مصريين وعرب أيضا.

المفارقة انّ نفس الأكراد الموجودين على الساحة اليوم في العراق تلقّوا دعما ممن يتاجرون بسيرة اضطهادهم لهم خلال السنوات الماضية. فالصراع بين البرازاني والطالباني لا يخفى على أحد، أحدهما كان يتلقى الدعم من نظام صدّام والآخر من نظام الخميني، أمّا الأسد الأب فقد كان يحتضن الزعيم الكردي عبدالله أوجلان ودعم الأسد الابن صالح مسلّم، ولا نريد أن نتحدث عن الدعم الذي حصلوا عليه من إسرائيل أيضا فهذا موضوع آخر، لكنّ الفكرة أنّ الأكراد لم يقاتلوا بعضهم البعض لأنّ أحدهم كردي والآخر غير كردي!

اتهم الاكراد العرب وغيرهم باستغلال الأوضاع بعد الحرب العالمية الأولى لتحقيق مصالحهم وبأنّ ذلك كان على حسابهم، ولكن الأكراد يفعلون نفس الشيء اليوم تماما، وتصحيح الخطأ لا يتم بخطأ أكبر منه. فها هم الأكراد (مع الاعتراف بامكانية وجود استثناءات لا تقبل التعميم)  يستغلون كل محطّة للمضي قدماً في مشروعهم الخاص وليس للمطالبة بحقوقهم المشروعة في أن يكونوا مواطنين في دول موجودة يتساوون فيها مع الآخر في الحقوق والواجبات وهو الأمر الذي كان يجب أن يكون ويجب أن يكون.

استغل أكراد العراق الاحتلال الأمريكي ليخطوا خطوة إلى الأمام في مشروعهم، وقد كان التحالف الشيعي- الكردي بمثابة المدماك الذي حصّن هذه الخطوة. لقد تحالف الأكراد مع المالكي فيما بعد على حساب السنّة العرب، وقد كانت المكاسب كبيرة، وعندما انتهى دوره ولم يعد جيّدا بالنسبة لهم انقلبوا عليه وانحازوا إلى صف المعارضين. والانقلاب اليوم يأتي أكله، فالمكاسب كبيرة أيضا مع رحيل المالكي، لم يقتصر الأمر على ضم كركوك فقط العاصمة الحلم بالنسبة لهم، بل بدأت المساعدات العسكرية تأتيهم من كل حدب وصوب.

الغريب أنّ إقرارها لم يستلزم سوى بضعة ساعات حتى تؤمّن الولايات المتّحدة والغرب لهم ما يحتاجون من أسلحة من مختلف الأنواع، وأعتقد أنّ ذلك لن يمر ذلك من دون ثمن سيدفعه العراق والمنطقة من دون شك، وقد يتبيّن في النهاية أنّ إرسال الأسلحة لم يكن هدفه تسليح البشمرغة في وجه تنظيم الدولة بقدر ما هو تسليح لمشروع الانفصال الكردي وتفتيت العراق.

الأغرب أنّ إقليم شمال العراق في نهاية المطاف ليس دولة مستقلة (على الأقل نظريا ورسميا)، كما أنّ البشمرغة ما هي إلا ميليشيات مقاتلة، ولكنّ ذلك لم يمنع واشنطن والدول الأوروبية من إرسال الأسلحة بسخاء ودون الحاجة إلى نقاشات برلمانيّة لطالما تذرّعت بها في وقت كان فيه المنشقون عن الجيش السوري بداية الثورة السورية يطالبون فيه بالحصول على أسلحة (وهم المقاتلون النظاميون المحترفون) ليواجهوا بها نظام أقلية يذبح أغلبية الشعب وليس العكس، ولم يحرّك استخدام الكيماوي أو البراميل المتفجرة أو المدافع أو السكاكين أي شيء فيهم لأكثر من ثلاثة سنوات.

لقد أصبح الأكراد في المنطقة كالمنشار على ما يبدو، ذهابا يأكلون وإيابا يأكلون. لكن لا شك أن تسليحهم في هذه الظروف الإقليمية قد يترك تداعيات على أكثر من صعيد:

1) سيؤدي تسليح الأكراد إلى إخلال في توازن القوى بين الحكومة المركزية والإقليم، إذ ستشعر أي حكومة عراقية أنها تحت سيف الابتزاز الدائم، فإما القبول بما يطرحه الأكراد (ويبدو أنّ شهيتهم مفتوحة مؤخرا) أو أنهم يمتلكون القدرة عمليا على إعلان الاستقلال والدفاع عنه في أي وقت من الأوقات.

2) قد يغري وضع كردستان العراق إخوانهم في البلدان الاخرى بالتوسع جغرافيا أيضا، فالأسلحة في نهاية المطاف قد تنتهي إلى أطراف كرديّة أخرى. لطالما تحدّثت التقارير عن وجود خلافات بين حزب العمال الكردستاني (PKK) وبين البارزاني من جهة، وبين البارزاني وبين حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) في سوريا من جهة أخرى بسبب لجوء هذن الحزبين إلى السلاح، لكن سرعان ما انقلبت الآية وبدأنا نقرأ عن تقارير لتدفق المقاتلين من هذين التنظيميّن المسلّحين للقتال مع البشمرغة ضد تنظيم الدولة. 

لا أحد يضمن هنا عدم انتقال الأسلحة لحزب الاتحاد الديمقراطي الذي سبق وأن تلقى دعما من بشار الأسد، واعتدى على أكراد وعلى عرب، وقد يغريه ذلك في الذهاب بمشروعه خطوة أخرى إلى الأمام، فهو ينشر منذ حوالي سنة خرائط لما يسميه كردستان سوريا أو ( كوردستانا روج افا) تمتد من شمال شرق سوريا وحتى غربها وصولا إلى الساحل السوري! ولعب دورا سيئا في محاربة الثوار السوريين وابتزاز المعارضة السورية، ومع ذلك لا مخاوف دولية من وصول السلاح إليه!

3) على الرغم من الاستقرار الظاهر لإقليم كردستان العراق، فإن وضع الأكراد سياسيا ليس بالنصاعة التي تبدو عليه، فالصراع الداخلي بينهم قوي، ونظامهم السياسي في النهاية نظام عائلات، ومع رحيل الزعامات تبقى الأمور مفتوحة على نزاعات قد تتحول إلى صراعات عسكرية بسهولة.

البعض قد يعلل نزعاتهم الانفصالية في المنطقة بالقول إنه الحل الأفضل في ظل انهيار الدول القائمة حاليا وإنّ نشوء دولة كردية قد يجنّبهم الفوضى الحاصلة ويعفيهم من تداعياتها وهو في النهاية أمر مشروع ومن حقّهم القيام به، لكن لا أعتقد أنّ عاقلا سيوافق على إمكانية نجاح مشروع إنشاء دولة قومية في وقت تنهار فيه فكرة الدولة القوميّة منذ سنوات طويلة، كما لا أعتقد أنّ عاقلا يوافق على أن إنشاء دولة كردية سيكون الحل الأفضل وأنّها ستكون بمعزل عن تداعيات الفوضى التي تضرب المنطقة ونتائجها. 

عن الكاتب

د. علي حسين باكير

مستشار سياسي - باحث في العلاقات الدولية والشؤون الاستراتيجية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس