د. سمير صالحة - العربي الجديد

ستباشر إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن في توجيه الرسائل إلى أكثر من طرف بعد العملية الناجحة التي نفذتها الوحدات الخاصة الأميركية ضد زعيم تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، أبو إبراهيم الهاشمي القرشي، الذي كان متخفيا في بلدة أطمة السورية الحدودية مع تركيا. ما أهم الرسائل الأميركية من خلال هذه العملية ولمن ستوجهها؟ وما هي حصة أنقرة فيها باعتبار مسرح العمليات يقع داخل منطقة نفوذها الميداني؟

شكر المتحدث باسم وزارة الدفاع (البنتاغون) جون كيربي قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، على المساعدة التي قدّمتها للجيش الاميركي "المسؤول بشكل كامل" عن العملية. وهذا يعني أن بايدن لن يشكر تركيا على أي جهود بذلتها في المساعدة على إنجاز العملية، كما فعل الرئيس السابق دونالد ترامب قبل عامين ونصف العام في عملية تصفية زعيم "داعش" السابق أبو بكر البغدادي. الدليل مسارعة المتحدّث باسم وزارة الخارجية التركية، السفير طانجو بيلغيش، إلى إعلان أن بلاده رفضت دائما فكرة التعاون مع تنظيم إرهابي من أجل القضاء على تنظيم إرهابي آخر، وكان يعقب على عملية قتل القرشي.
هل يمكن أن تقوم القوات الأميركية بعمليةٍ لا تبعد مئات الأمتار عن الحدود التركية، وأن تحرك قواتها المجوقلة في بقعة جغرافية ساعات على هذا النحو، من دون التنسيق مع أنقرة وموسكو أو بمعرفتهما على الأقل؟ لماذا يتنكر بايدن لجهود الحلفاء والشركاء، ويكتفي بالإشارة الى جهود "قسد"، فيغضب المتحدث باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، اللواء يحيى رسول، فيقول إن جهاز المخابرات العراقي زوّد التحالف بمعلومات دقيقة، قادت إلى مكان زعيم تنظيم الدولة الإسلامية؟

يكرّر التاريخ نفسه. يُقتل أبو بكر البغدادي نتيجة عملية إنزال أميركي في أواخر أكتوبر/ تشرين الأول 2019، حيث كان مختبئا في أحد منازل قرية باريشا التي لا تبعد أكثر من 25 كلم عن مكان استهداف القرشي الذي يُقتل في الثالث من فبراير/ شباط 2022 في هجوم أميركي مماثل في منطقة تقع في نطاق ساحة العمليات العسكرية التركية، لكنها أيضا تحت سيطرة "هيئة تحرير الشام".
ستكون رسائل واشنطن باتجاهين هنا: صعوبة وحدة مواقف تركيا وأميركا ومصالحهما في خطط الحرب على التنظيمات الإرهابية الناشطة في سورية والعراق. ولن تتردّد واشنطن بمهاجمة الجماعات الجهادية المتطرّفة الأخرى التي تصفها بالإرهابية في إدلب. وكانت تركيا قد عرضت أن تتولى هي ملف القضاء على "داعش"، لكن إدارة ترامب تمسّكت بخيار حليفها الكردي هناك، لأن الأهداف الأميركية أبعد من إطاحة عناصر التنظيم. وقد بدأ "البنتاغون" يعرقل أي عملية عسكرية تركية ضد حلفاء حزب العمال الكردستاني الذين ترعاهم، وتوفر لهم الغطاء العسكري والسياسي والمادي، وهذا هو السيناريو والمخطط والأسلوب المعتمد. الفرق ربما كان توقيع القوات الخاصة الأميركية على كل تفاصيل العملية، مع عدم نسيان الإشارة إلى دور "قسد" في دعم الحرب على المجموعات الإرهابية. بعد عملية البغدادي، رفعت واشنطن من مستوى الدعم الذي تقدمه لحليفها الكردي في شرق الفرات تحت غطاء التنسيق العسكري والأمني لمحاربة هذه المجموعات، وهي ستزيد من حجمه في المرحلة المقبلة، طالما أنها شكرت "قسد" على جهودها.
ولا يمكن فصل دلالات عملية "نسر الشتاء" التركية التي وصلت، أخيرا، إلى عمق الحسكة وشمال العراق عن دلالات عملية القرشي وما تريد أن تقوله واشنطن لأنقره هنا أيضا. خطة واشنطن الجديدة بعد عملية القرشي ستكون مشابهة لما فعلته قبل عامين ونصف العام، رفض أي تصعيد عسكري تركي واسع ضد "قسد" في شرق الفرات وإبقاء ورقة "داعش" دائمة السخونة، ريثما يتم العثور على الخيار البديل.

وهناك احتمال أن ما جرى في الحسكة، عندما هاجمت خلايا "داعش" سجني غويران والصناعة لإطلاق سراح آلاف من أنصاره وكوادره، لم يقنع كثيرين بأن التنظيم ما زال حيا يرزق، وأنها كانت مجرّد مسرحية لتلميع صورة "قسد" ودورها، وإبقاء مشروعها في شرق الفرات على قيد الحياة. تحرّكت المروحيات الأميركية لدعم هذا الطرح، وحاجة واشنطن و"قسد" في سورية للإمساك بورقة "داعش" في هذه المرحلة. لكن "الفجلة الكبيرة"، كما يقول المثل التركي، والتي تخبئها أميركا في جعبتها، ستكون أهم من ذلك بكثير: كيف تمكّن القرشي من الوصول إلى منطقةٍ على مقربة من الحدود التركية السورية، والاحتماء فيها أشهرا طويلة من دون أن تكتشف هويته الحقيقية؟ سؤال ستطرحه واشنطن على أنقرة، عندما تبادر إلى سؤالها عن طريقة تمكّن القرشي من قطع كل هذه المسافات والمناطق الواقعة تحت سيطرة مجموعات الحشد الشعبي و"وحدات الحماية" الكردية، والاقتراب على هذا النحو من الحدود التركية.
ستحاول واشنطن بعد ذلك قطع الطريق على جهود روسية جديدة تبذل على خط أنقرة – دمشق، للتنسيق في مواجهة "قسد" ومخططاتها في شرق الفرات، تحت ذريعة التصدّي لمجموعات "داعش"، بهدف إنجاز حدود مشروع الدويلة الكردية، ورسم معالمها الجغرافية والسياسية والاقتصادية، بعد عمليات التهجير التي جرت أخيرا في بعض مناطق الحسكة. وقد نرصد انتقال رسالة أميركية أخرى باتجاه أنقرة، وهي تحريك ورقة الإرهاب في إدلب لتفجير التفاهمات التركية الروسية هناك، والدخول على خط المجموعات الجهادية المتطرّفة، والمصنف بعضها على لوائح الإرهاب، مثل جبهة النصرة وهيئة تحرير الشام، طالما أن ملف "داعش" يتراجع ويتقلص. ستحاول واشنطن تحريك نموذج "إدلب الأفغانية" هذه المرّة لمحاصرة أنقرة وموسكو في بقعة جغرافية ضيقة يقطنها مئات آلاف الأشخاص ومحاذية للحدود السورية التركية، وتعطيها ما تريد من فرص مناورة كما فعلت مع حركة طالبان.

تبحث واشنطن عن فرصة اختراق أمني وسياسي جديدة في الملف السوري ككل ومنطقة إدلب هي فرصتها الأوفر حظا عبر تحريك ملف الجولاني هذه المرّة وتخييره بين الدخول في بوتقة سياسية أمنية أيديولوجية جديدة أو مواجهة المصير المشابه لقيادات "داعش" في المنطقة. والرسالة تعني أنقرة وموسكو قبل غيرهما، لن نفاجأ إذا ما اتسعت رقعة العمليات العسكرية الأميركية قريبا، لتشمل أهدافا، بينها قيادات الجولاني في إدلب، لتوتير العلاقة التركية الروسية هناك، ونقل حرب الإرهاب إلى ساحة جديدة لتفرض واشنطن نفسها على الطرفين هناك. هدف واشنطن سيكون زيادة عدد أوراق التفاوض مع تركيا وروسيا عند طرح الملف الكردي في سورية على طاولة التفاهمات الكبرى.
تقول أنقرة على لسان نائب رئيسها فؤاد أقطاي إنها نفذت عملية جوية عسكرية مؤثرة للغاية ضد معاقل حزبي العمال الكردستاني والاتحاد الديمقراطي في شمالي العراق وسورية في إطار عمليات "نسر الشتاء". في الوقت نفسه، كانت واشنطن تضع اللمسات الأخيرة على عملية استهداف القرشي في إدلب. تنشر أنقرة صور وزير الدفاع التركي خلوصي أكار وهو في غرفة العمليات العسكرية أخيرا، يتابع تفاصيل استهداف عناصر حزب العمال ومخابئهم في شمالي سورية والعراق. ويوزع البيت الأبيض في اليوم التالي صوراً لبايدن ونائبة الرئيس كامالا هاريس وأعضاء من فريق الأمن القومي وهم يراقبون عملية القضاء على القرشي. تؤكد أنقرة أن عملياتها العسكرية ضد الإرهابيين ستتواصل، وهذا ما تؤكده واشنطن أيضا، ولكن من خلال حربها على تنظيم الدولة الإسلامية وقياداته وكوادره. تعهد الرئيس الأميركي بمواصلة العمل مع الحلفاء، قوات سوريا الديمقراطية، وقوات الأمن العراقية، بما في ذلك البشمركة الكردية و80 دولة من أعضاء التحالف الدولي، للقضاء على "داعش". وتعهد الناطق باسم وزارة الخارجية التركية بمواصلة بلاده حربها ضد التنظيمات الإرهابية التي يحاول بعضهم دعمها وتمويلها لمحاربة تنظيمات إرهابية أخرى. .. كل واحد يبكي على ميته.

 

 

عن الكاتب

د. سمير صالحة

البرفسور الدكتور سمير صالحة هو أكاديمي تركي والعميد المؤسس لكلية القانون في جامعة غازي عنتاب وأستاذ مادتي القانون الدولي العام والعلاقات الدولية في جامعة كوجالي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس