د. علي حسين باكير - عربي 21

أرسل لي بعض الأصدقاء الأسبوع المنصرم مقطعاً مترجماً يتكلّم فيه أحد الأشخاص عن الأزمة الروسية ـ الأوكرانية. تمّ تداول المقطع بشكل كبير على ما يبدو، لأنّه وصلني من عدّة جهات ليست مرتبطة ببعضها البعض. استمعت إلى التسجيل المصوّر، لكنّني لم أنجح في التعرّف على الشخص المتكلّم، فقررت البحث عن نسخته الأصليّة خاصّة مستعيناً بالشعار الموجود في أعلى الجزء الأيسر من الشاشة لجامعة ييل العريقة. 

وخلال دقائل، تبيّن لي أنّ المقطع مأخوذ من محاضرة في العام 2018، وأنّ المتحدّث هو فلاديمير بوزنير. بوزنير صحفي ومقدّم برامج أمريكي من أصل روسي، يبلغ من العمر حوالي 87 عاماً، وهو من الشخصيات المعروفة في الماضي لأنه كان يعرض من خلال برامجه وجهة نظر الإتحاد السوفييتي حول المسائل المهمّة. وقد قيل سابقاً بأنّه كان يروّج في مرحلة ما من حياته للبروبغندا السوفييتية. 

يبدأ المقطع بسؤال يوجّهه أحد الموجودين في منصّة الجمهور لبوزنير: "من واقع خبرتك ونقاشاتك مع القادة في روسيا، هل تجد أنّهم منفتحين على تسوية بشأن أوكرانيا؟". يرد بوزنير بالقول إنّ "كلمة السر هي التسوية"، بمعنى أنّ حل المشكلة مع روسيا يجب أن يتم من خلال عرض تسوية عليها. ثمّ يضرب بوزنير المثل بأزمة الصواريخ الكوبية في عام 1962، ويقول بأنّ الأزمة انتهت بتسوية قبلت فيها أمريكا سحب الصواريخ النووية من تركيا على أن يتراجع الروس في المقابل من كوبا ويسحبوا صواريخهم من هناك. وقد تضمّنت التسوية تنفيذ الالتزام الأمريكي بشكل سرّي دون الإعلان عنه. 

يجادل بوزنير بأنّ النظرة الروسية تقول بأنّ حلف شمال الأطلسي تهديد وجودي لموسكو وأنّه يتوسع أكثر باتجاهها، مشيراً إلى أنّ الناتو أصبح على حدود روسيا في لاتفيا وأستونيا. ثمّ يضيف بأنّه إذا انضمت أوكرانيا إلى الغرب، فإنّه من المنطقي أن نفترض أنّها ستصبح عضوا في الناتو، وبما أنّ لأوكرانيا حدوداً مع روسيا، وبما أنّ شبه جزيرة القرم هي تقليدياً لروسيا، فإنّ الأسطول السادس الأمريكي قد يتواجد في البحر الأسود، والناتو سيصبح على حدود روسيا الغربية، وهو ما يراه الروس تهديداً وجودياً بحسب وصفه. 

أخيراً، يذكر فلاديمير ما يريد من المستمع أن يفهمه على أنّه التسوية المطلوبة في الأزمة الروسية ـ الأوكرانية فيقول إنّه إذا تمّ التفاوض على اتفاق دولي ينص على أنّ أوكرانيا لن تصبح عضواً في الناتو في الخمسين عاماً المقبلة، فلن يكون هناك مشكلة أوكرانية. 

إذن، يريد فلاديمير أن يقول لنا بأنّ تسوية من هذا النوع تحمي أوكرانيا، لكن إلى أي مدى مثل هذا الادعاء صحيح؟ قبل الإجابة عن هذا السؤال، سيكون من الفيد الإشارة إلى بعض المغالطات التي وردت في مداخلته، فشبه جزيرة القرم ليست روسية من الناحية التقليدية، وإلاّ لجاز لنا أن نقول إنّها عثمانية لوقت أطول من الزمن، فقد بقيت ملحقة بالحكم العثماني لقرون، ولعل وجود أقلّية تترية مسلمة من أصل تركي هناك إلى يومنا هذا بالرغم من فتك السوفييت هو خير دليل على ذلك. 

من المقاربات الخاطئة أيضاً، تصوير لاتفيا وأستونيا على أنّها تهديد لروسيا بسبب انضمامها إلى حلف شمال الأطلسي. دول البلطيق تعتبر دول مجهرية بالنسبة إلى مساحة روسيا. فضلاً عن ذلك، فهي لا تمتلك جيوشاً حقيقية. أستونيا على سبيل تفتقد حتى إلى الدبابات. موازنة حفظ الأمن في هذه الدول لا تتجاوز مليار دولار في أحسن الأحوال. تمّ احتلالها وضمها إلى الإتحاد السوفييتي سابقا بكل سهولة، ثم وقعت تحت الاحتلال النازي، ثم تحت الاحتلال السوفييتي مرّة أخرى. بمعنى آخر، هذه الدول ساقطة عسكرياً، ويراد لها ـ من وجهة النظر الروسية ـ أن تبقى كذلك هي وغيرها من الدول المحيط بروسيا. عدم وجود دفاعات تحكم هذه الدول هو تشجيع لموسكو بغزو المزيد من الدول، فإذا لم تتردد موسكو بغزو دولة مثل أوكرانيا في العام 2014، فما الذي سيمنعها في أي وقت من الأوقات لأي سبب من الأسباب من غزو مثل هذه الدول الضعيفة المحيطة بها.

وفقاً للسردية المطروحة على لسان فلاديمير، فانّ احتلال روسيا لشبه جزيرة القرم في العام 2014 كان هدفه منع إنضمام أوكرانيا الى الناتو. لكننا اليوم في العام 2022، ولم ينه احتلال شبه جزيرة القرم وضمّها إلى روسيا التهديدات الروسية باحتلال كامل أوكرانيا، كما انّه لم ينه النقاش بشأن مسألة إنضمام أوكرانيا الى حلف شمال الأطلسي. الأمر لا يتعلق بانضمام أوكرانيا الى الحلف بشكل أساسي بقدر ما تتعلق بقدرة روسيا على تهديد جيرانها باستخدامها القوة العسكرية وإستعادة نفوذها فيما يسمى بدول الاتحاد السوفيتي السابقة.

لكن بغض النظر عن ذلك، لا يوجد ضمانات بأنّ الروس سيلتزمون بأي اتفاق يجري. علينا ألاّ ننسى أنّ أوكرانيا، التي تحوّلت إلى ثالث أكبر قوّة نووية في العالم بعد استقلالها عن الإتحاد السوفييتي، تخلّت في العام 1994 عن أسلحتها النووية طوعاً مقابل اتفاق يقضي بالتزام روسيا بعدم التعدّي عليها واحترام حدودها وسيادتها واستقلالها. وعلى الرغم من أنّ الاتفاق حظي بالمكانة الدولية وتمّ كذلك بضمانات أمنيّة أمريكية، إلاّ أنّ أحداً لم يلتزم بما تمّ الاتفاق عليه، ودفعت أوكرانيا ثمن ذلك. 

الأمر لا يتعلق فقط بأوكرانيا، فموسكو احتلت أجزاء من جورجيا في حرب أوسيتيا الجنوبية وقسّمتها، واحتلت كما ذكرنا جزءاً من أوكرانيا في العام 2014، ولن تتورّع عن احتلال المزيد. السؤال الذي يطرح نفسه، هل سيتم ردعها، أو سيتم تقديم التنازلات لها؟ الخيار الأخير سيعمل على تغذية طموحها لتهديد المزيد من الدول مستقبلاً بدليل أنّه حصل بالفعل في السابق.

عن الكاتب

د. علي حسين باكير

مستشار سياسي - باحث في العلاقات الدولية والشؤون الاستراتيجية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس