د. علي حسين باكير - عربي 21

بعد إنكار طويل ومراوغة أطول، أطلق الجانب الروسي عملية غزو أوكرانيا من عدّة جبهات متذرعاً بارتكاب كييف مجزرة وهمية في صفوف الانفصاليين الموالين لموسكو شرق أوكرانيا. ما يريده الرئيس الروسي هو تدمير البنية التحتية العسكرية الأوكرانية الضعيفة والمترهلة، وتقسيم البلاد إلى دويلات صغيرة في نظام كونفدرالي يسهل التلاعب به من روسيا، وتنصيب نظام عميل على السلطة المركزية. ستجعل هذه الإجراءات من أوكرانيا مجرّد مساحة جغرافية عازلة ـ في أحسن الأحوال ـ وغير ذات جدوى لأي أحد باستثناء موسكو.

في قائمة الرابحين والخاسرين من الأزمة الروسية ـ الأوكرانيّة، صنّف البعض تركيا في خانة الرابحين على اعتبار أنّ الأزمة أتاحت لها التحرّك دبلوماسياً والتأكيد على دورها المحوري والفاعل في حلف شمال الأطلسي. وكان الجانب التركي قد اقترح الوساطة بين موسكو وكييف عدّة مرات مع تأكيده على ضرورة النظر في المخاوف الروسية من جهة، والتأكيد في نفس الوقت على دعم سيادة أوكرانيا ووحدة أراضيها. ويتمتع الجانب التركي بعلاقات جيّدة مع روسيا وأوكرانيا، لكنّه انخرط في شراكة استراتيجية متنامية مع كييف خلال السنوات الماضية لموازنة العلاقة مع روسيا، كما أنه كان أوّل من يزودها بأسلحة فتّاكة من بينها مسيّرات (تي بي 2) للدفاع عن نفسها في وجه الانفصاليين الموالين لروسيا.

لكن وبنظرة فاحصة للتداعيات المترتبة عن غزو روسيا لأوكرانيا، سيتبيّن أنّ الموقف الروسي يُرتّب تكاليف باهظة على تركيا على أكثر من صعيد. على المستوى السياسي والدبلوماسي، لم يستجب الجانب الروسي لدعوات أنقرة المتكررة للحوار والوساطة وتجاهلها تماماً، وهو ما قلّل من قيمة تركيا. بمعنى آخر، بوتين قابل قادة دول أوروبا الغربية ليقول إنّه ليس لدى أنقرة ما تقدّمه في هذا المجال. 

بعد العام 2015، اتّبعت أنقرة سياسة معقّدة في علاقاتها مع موسكو، وكان من بين ركائزها التقرّب بحذر منها، وتطوير علاقات بينيّة أقوى، والتأكيد على عضوية تركيا في الناتو، ومحاولة تمتين العلاقة مع الغرب، وتطوير علاقات أقوى مع أوكرانيا لتحقيق نوع من التوازن مع موسكو. لكن في ظل التطورات التي تجري اليوم، فإنّ خلق دولة عميلة لروسيا في أوكرانيا يعني أنّ تركيا ستخسر على الأرجح القدرة على توظيف العلاقة مع كييف لتحقيق توازن في العلاقة مع موسكو. 

علاوةً على ذلك، فقد طورت تركيا وأوكرانيا خلال السنوات الماضية تفاهماً واعداً في قطاع الصناعات الدفاعية، قوامها التعاون في الإنتاج المشترك للمسيّرات القتالية، والتعاون في مجال إنتاج المحرّكات المتطورة والتكنولوجيا العسكرية. سعت أنقرة من خلال هذه الشراكة إلى الحصول على بعض التكنولوجيا اللازمة لتطوير المحركات وربما الصواريخ وتقديم الدعم العسكري لأوكرانيا بشكل يهدّد الانفصاليين الروس بشكل جدّي. لكن مع الغزو الروسي لأوكرانيا وشروط الاستسلام التي تسعى موسكو لفرضها على كييف، فإنّ مصير الشراكة الاستراتيجية مع أوكرانيا في مجال الصناعات الدفاعية سيصبح في مهب الريح.

من الناحية الجيو ـ سياسية، فإنّ احتلال أوكرانيا يعزز من تواجد روسيا العسكري على البحر الأسود للمرّة الثانية بعد احتلال وضم موسكو لشبه جزيرة القرم في العام 2014. تعزيز الوجود الروسي على شريط أوسع في البحر الأسود يقوّض من توازن القوى في تلك المنطقة الحيوية، ويميل الكفّة إلى موسكو بما يشكّل تهديداً حقيقياً لتركيا. التداعيات الجيو ـ سياسية لغزو أوكرانيا سيتجاوز مداها شرق أوروبا. الدول الصغيرة على حدود تركيا والقريبة جغرافيا من روسيا ستصبح في وضع أضعف وستخشى اتباع سياسات لا تتماشى مع الأجندة الروسية، وهذا قد يضعف من موقف أنقرة في القوقاز وآسيا الوسطى أيضاً بعد الإنجازات التي كانت قد حققتها في السنوات القليلة الماضية في تلك المناطق. 

إذا لم تتم معاقبة روسيا بشكل حازم، فمن المتوقع أن ينتشي "حلفاؤها" بغزوها لأوكرانيا، وأن تكتسب المزيد من الثقة بمواقفها الخارجية وقد يشكل ذلك عقبة إضافية لأنقرة، لاسيما في سوريا. خلال الأيام القليلة الماضية، استقبل بوتين على سبيل المثال نائب رئيس مجلس السيادة الحاكم في السودان حميدتي، كما أوردت بعض التقارير وصول حفتر إلى موسكو. وفي أول رد فعل من قبل نظام الأسد في سوريا، فقد اعترف النظام الذي يقع فعلياً تحت سيطرة روسيا وإيران بالمناطق الانفصالية الأوكرانية كدول مستقلة. 

من الناحية الاقتصادية، تعتمد تركيا بشكل كبير على روسيا في الغاز والنفط والسياحة والبرنامج النووي السلمي. الأزمة الروسية ـ الأوكرانية رفعت أسعار الغاز والنفط الى مستويات غير مسبوقة مؤخراً. من المتوقع أن يزيد ذلك من حجم فاتورة الطاقة المستوردة والتي عادة ما تزيد على الـ40 مليار دولار، وهو ما سيزيد من الضغط على العملة المحلية وعلى الاقتصاد التركي وسيكون لذلك تداعيات اجتماعية. 

العقوبات التي سيتم فرضها بشكل متصاعد على روسيا قد تضر بتركيا أيضاً نظراً لحجم التبادل التجاري علاوةً على واردات النفط والغاز. توقيت هذه الأزمة جاء في وقت كانت فيه أنقرة تحاول أن تخرج من دوامة انخفاض سعر الصرف وارتفاع التضخم في محاولة لتعويض الخسائر في مرحلة الوباء. لكن المؤشرات الأولية الناجمة عن الأزمة الروسية ـ الأوكرانية لا توحي بأنّ الأمور قد تكون سهلة أو قد تسير في المسار الصحيح.

عن الكاتب

د. علي حسين باكير

مستشار سياسي - باحث في العلاقات الدولية والشؤون الاستراتيجية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس