ترك برس-الأناضول

من التهم التي يروجها خصوم الدولة العثمانية، تهمة التعصب الديني، باعتبارها دولة مسلمة، ضد أصحاب الملل الأخرى، حيث يوظفون دائما أي إجراء يتم في الدولة العثمانية ضد غير المسلمين لهذا الغرض، عن طريق اجتزائه من سياقه.

ومن هذه الأحداث التي تم توظيفها لهذا الغرض، إعدام البطريرك "غريغوريس" أو غريغوري الخامس بطريرك بطريركية "فنر" الأرثوذكسية في عهد السلطان العثماني محمود الثاني.

والواقعة ثابتة بلا ريب، لكنها اجتزئت من سياقها، وتم التغاضي من قبل خصوم الدولة عن أسباب إعدامه والتي تظهر مدى استحقاقه لهذه العقوبة.

ابتداءً نقول إن الدولة العثمانية كان لها فضل كبير على الأرثوذكس في القسطنطينية، منذ أن فتحها السلطان العثماني محمد الفاتح عام 1453م، حيث عمل على استقرار سكانها البيزنطيين.

وأعاد السلطان محمد الفاتح تنصيب البطريرك البيزنطي الأرثوذكسي "جناديوس" باختيار الرعايا البيزنطيين أنفسهم، وكان من أشد المعارضين لتوحيد الكنيستين الشرقية والغربية، ومنحه كافة الصلاحيات التي كانت تمنح للبطاركة الأرثوذكس، وكفل السلطان للجميع حرية العبادة.

لقد أدى ذلك إلى تأكيد مبدأ الانفصال بين الكنيسة البيزنطية وكنيسة روما بشكل أبدي، واعتبر الأرثوذكس السلطان محمد الفاتح حامي الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية، وحامي رعاياها من سطوة الخوف من فكرة الاتحاد الكنسي التي كانت هاجسا مرعبًا يداهمهم.

وبعد أن بدأ الضعف يزحف باتجاه الدولة العثمانية، حصلت روسيا على حق حماية الرعايا الأرثوذكس فيها، وذلك بموجب معاهدة "كوجوك كاينارجا" عام 1774م، والتي كانت ذريعة للتدخل الروسي في الشؤون الداخلية للدولة إضافة إلى تخلي الأخيرة عن بعض أراضيها لروسيا.

كان من آثار انتقال شأن حماية الأرثوذكس في الدولة العثمانية لصالح الروس، زيادة تطلعات الروم لإقامة دولة يونانية منفصلة عن الدولة العثمانية، وانطلاقا منذ ذلك الحلم، تأسست جمعية سرية عام 1814م في "أوديسا" الواقعة بالجمهورية الأوكرانية الحالية.

ومع الأسف، تورطت شخصيات كنسية من بطريركية "فنر" التي أحياها السلطان محمد الفاتح، بعلاقات تنسيقية وتآمرية مع هذه الجمعية السرية، لدرجة أن الأمير "إبسيلانتي" من أشراف "فنر"، كان مساعدا لقيصر روسيا، ورئيسا لهذه الجمعية السرية عام 1821م، كما أن هذه البطريركية كانت على علاقة بـ"غرمانوس" بطريرك "باتراس" الواقعة غرب اليونان الحالية، وهذا الرجل يعد مشعل فتيل الثورة اليونانية.

أما البطريرك غريغوريس الذي جيء به بطريركا للمرة الثالثة، فقد كان على علاقة وطيدة بالجمعية السرية، وثبت تنسيقه وتواطؤه مع المسؤولين الروس ضد الدولة العثمانية، وهناك رسالة بعث بها إلى قيصر روسيا "ألكسندر"، تكشف جانبا من تآمر البطريرك على الدولة، ننقلها بنصها كما أوردها المؤرخ أحمد آق كوندز في كتابه "الدولة العثمانية المجهولة"، حيث جاء في الرسالة:

"ليس من الممكن تحطيم الأتراك من الناحية المادية، لأنهم قوم صبورون، ولديهم قابلية مقاومة كبيرة، ومغرورون ولهم عزة وكرامة نفس، وهذه الصفات تنبع من تعلقهم بدينهم ورضائهم بالقدر وقوة تقاليدهم ومن شعور الطاعة لرؤسائهم، لذا يجب أولا تحطيم وإزالة شعور الطاعة هذا، وقطع روابطهم المعنوية، وإضعاف متانتهم الدينية".

وتابعت الرسالة: "وفي اليوم الذي تهتز وتضعف معنوياتهم هذه، عندئذ يمكن عزلهم عن قدراتهم الأصلية التي تقودهم نحو الانتصارات، إن الانتصارات على الدولة العثمانية في ساحات الحرب لا تكفي للقضاء على الدولة العثمانية، ما يجب فعله هو إنجاز هذا التخريب وإتمامه، دون أن يحس به الأتراك".

والروس أنفسهم يقرون بصحة هذه الرسالة، فهذا الجنرال إغناتييف سفير روسيا لدى الدولة العثمانية في عهد السلطان عبد العزيز يقول معلقا: "لقد شاهدت صدق تحليل هذه الرسالة وصدق تشخيصها عندما كنت أمارس وظيفتي".

بعدما ثبتت خيانة هذا البطريرك، استدعاه الباب العالي وتم التحقيق معه، وحكم عليه بالإعدام جراء خيانته وتواطئه مع أعداء الدولة، وعلقت في رقبته يافطة الخيانة، وشنق أمام الباب الأوسط للبطريركية.

لقد صدمت هذه الخيانة الدولة العثمانية، لأنها اعتبرت ذلك البطريرك رئيس البطريركية العالمية وأعطته جميع الامتيازات، وحمت كنيسته من تعسف وسطوة الكنيسة الغربية الرومانية التي حاولت إفناء الأرثوذكس.

إذن، لم يكن إعدام هذا البطريرك يعبر عن تعصب ديني للعثمانيين، وإنما شأنه كشأن أي متآمر خائن للوطن، يتم إعدامه بتهمة الخيانة العظمى، وهو حق تكفله الشرائع والقوانين في كل زمان ومكان، وكثيرًا ما تم إعدام الخونة المنتسبين للإسلام في الدولة العثمانية، فلا فارق بين أن يكون الخائن مسلما أو مسيحيا أو يهوديا، فالخيانة مؤداها واحد، ونتيجتها واحدة.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!