سعيد الحاج - الجزيرة

على بعد سنة تقريبا من الاستحقاق الانتخابي في تركيا، تعيش البلاد أجواء الانتخابات بكل أبعادها من تنافس واستقطاب ومناكفات ومناوشات سياسية وإعلامية، لكن يبقى هناك سؤال بالغ الأهمية لم يجد إجابة شافية له، وهو من سيترشح مقابل الرئيس التركي هذه المرة.

انتخابات مختلفة

مع مرور الوقت، تتراجع حظوظ الانتخابات المبكرة في تركيا، فما زال حزب العدالة والتنمية الحاكم بانتظار ثمار سياساته الاقتصادية التي يقول إنها ستبدأ بالظهور بشكل ملموس في الربع الأول من العام المقبل. ويجعل ذلك إجراء الانتخابات هذا العام أمرا غير مرجح، إذ يفضل الحزب إجراءها في ظروف اقتصادية أفضل لتحمل رسالة للناخب بأن السياسات الحكومية بدأت تؤتي أكلها وتخفف عنه الأعباء اليومية.

ولذلك، في غياب أي تطورات مفاجئة -كأزمة اقتصادية تجعل المستقبل أسوأ من الحاضر مثلا- لا يتوقع أن تُبكر الانتخابات كثيرا فتبقى على موعدها يونيو/حزيران 2023، اللهم إلا احتمال تبكيرها بضعة أسابيع لتجنب موسم الصيف والإجازات حرصا على أوسع مشاركة ممكنة في الاستحقاق.

من البديهي القول إن الانتخابات الرئاسية أهم بمراحل من البرلمانية، لأن البلاد تحكم بنظام رئاسي، ومن جهة أخرى لأن الرئيس أردوغان نفسه هو مناط الاستقطاب الرئيس في هذه الانتخابات، وحوله تنقسم الآراء وتتبلور التحالفات والتحالفات المضادة. تجرى هذه الانتخابات في أجواء مختلفة بالكلية عن المنافستين السابقتين، عامي 2014 و2018، اللتين فاز بهما الرئيس أردوغان بسهولة لافتة ومن الجولة الأولى.

فهي ستنظم وفق منظومة تحالفات مختلفة هذه المرة، إذ إن تحالف "الشعب" المعارض الذي خاض الانتخابات السابقة ضم إليه حزبين جديدين ليشكل "طاولة الستة" التي تنسق للعودة بالبلاد للنظام البرلماني. ومن جهة أخرى، فقد تشظت الأحزاب الكبيرة -بما فيها العدالة والتنمية والشعب الجمهوري- وخرجت من عباءتها أحزاب جديدة، لكن هذه المرة برئاسة شخصيات قيادية كبيرة سابقا في الحزبين والحكومة، وتحديدا رئيس الوزراء (ورئيس حزب العدالة والتنمية) السابق أحمد داود أوغلو والوزير الأسبق علي باباجان والمرشح الرئاسي عام 2018 محرم إينجة.

كما أنها ستجرى في ظل تراجع شعبية العدالة والتنمية بشكل ملحوظ، لما سبق ولأسباب أخرى، وكذلك تراجع التأييد لأردوغان وإن بنسبة أقل، بطبيعة الحال. فضلا عن التأثير الكبير للمشاكل الاقتصادية على المشهد السياسي الداخلي والحملات الانتخابية وآراء الناخبين بشكل لافت.

وأخيرا، هي مختلفة لأن هناك احتمالا أكبر هذه المرة أن تجتمع بعض أحزاب المعارضة على مرشح توافقي لمنافسة أردوغان، وهو أمر -إن حدث- سيزيد من فرصه في المنافسة وربما الفوز. عدد كبير من استطلاعات الرأي التي أجريت مؤخرا، والتي تصلح للاستئناس وليس للجزم بالنتائج، تظهر بشكل واضح أن اسم المرشح المنافس لأردوغان (وبالتالي حزبه وخلفيته وأفكاره) له دور كبير في تحديد فرصه في المنافسة.

ولذلك، فقد طرحت حتى الآن عدة أسماء محتملة لمنافسة الرئيس التركي، في مقدمتها زعيم المعارضة كمال كليجدار أوغلو، ورئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو، ورئيس بلدية أنقرة منصور يافاش، والرئيس الأسبق عبدالله غل، ورئيس المحكمة الدستورية العليا السابق هاشم كيليتش، وبعض القيادات السياسية الأخرى، وشخصيات غير حزبية عديدة.

من سينافس أردوغان؟

لدى الحديث عن المرشحين المحتملين لأردوغان في الانتخابات الرئاسية المقبلة، تتجه الأنظار والنقاشات عادة للمعارضة التقليدية، وتحديدا حزب الشعب الجمهوري وللتحالف المعارض أو "طاولة الستة" كما يطلق عليها حاليا، لكنهما ليسا المصدر الوحيد للمنافسين.

بعض الأحزاب الأخرى ليست منضوية تحت الإطار السداسي الذي يجمع أحزاب المعارضة الكبرى، وليس مرجحا أن تنضم له قبل الانتخابات؛ لذلك فمن الأرجح أن تقدم مرشحها الحزبي الذاتي. وفي مقدمة هذه الأحزاب "الشعوب الديمقراطي" الذي يواجه خطر الحظر بسبب دعوى مرفوعة ضده أمام المحكمة الدستورية، وكذلك حزب "البلد" برئاسة محرم إينجة الذي سيقدم الأخير غالبا مرشحا رئاسيا.

في ما يتعلق بالمعارضة التقليدية أو "طاولة الستة"، ثمة مساران محتملان، القدرة على التخندق خلف مرشح توافقي تدعمه هذه الأحزاب، أو الذهاب للانتخابات بعدة مرشحين.

نظريا، يبدو تقديم مرشح توافقي خيارا منطقيا للمعارضة؛ إذ يعظم من فرصها في الفوز، لكن هذا المنطق تحديدا هو السبب الرئيس لعدم قدرتها حتى اللحظة على التوصل لمرشح توافقي، بل سيمنعها على الأغلب من التوصل له على الإطلاق.

فأحزاب المعارضة الستة تأتي من خلفيات ومشارب متنوعة وأحيانا متناقضة، ويجمعها في الأساس منافسة أردوغان وفكرة العودة للنظام البرلماني، لكن هذا لم يجسر حتى اللحظة فجوة الثقة القائمة بينها. وفي ظل أن أي مرشح توافقي سيكون ذا فرصة مقبولة للمنافسة والفوز تحت نظام رئاسي يمنح الرئيس صلاحيات واسعة جدا من الصعب تحديدها من قبل البرلمان والقضاء أو كليهما، فإن الحرص يصبح سيد الموقف بين هذه الأحزاب بحيث لا ترغب في أن تكون مجرد جسر لوصول أحدها -عبر مرشحه- للرئاسة بكل هذه الصلاحيات ليتنكر لاحقا -في احتمال قائم- لكل المسار السابق.

ولهذا السبب، فلن يكون بالإمكان تقديم اسم سياسي بارز، وخصوصا رؤساء الأحزاب، كمرشح توافقي للمعارضة، إذ سيعني ذلك فوز أحد الأحزاب لا كل المعارضة، وهو السبب الرئيس لمعارضة الأحزاب الخمسة الأخرى رغبة رئيس الشعب الجمهوري كمال كليجدار أوغلو في ترشيح نفسه باسمها.

ومن جهة ثانية، فقد تراجعت اليوم حظوظ معظم الأسماء المعروفة المتداولة للمنافسة، وفي مقدمتهم كليجدار أوغلو نفسه الذي يرى كثيرون ومنهم حلفاؤه أن حزبه (الشعب الجمهوري) وطائفته (العلوية) وتاريخه (رئاسته السابقة لمؤسسة الضمان الصحي) تقف حائلا أمام إمكانية فوزه. ومثله رئيس بلدية إسطنبول الكبرى أكرم إمام أوغلو الذي قدم أداء ضعيفا وخطابا فوقيا في أكثر من حدث وأزمة ألمت بالمدينة خلال الأشهر المنصرمة، لدرجة أن وسائل إعلام معارضة كانت إلى جانبه وجهت له انتقادات حادة مؤخرا على هامش السيول التي طالت المدينة.

الخيار الآخر ضمن هذا المسار هو تقديم شخصية مغمورة لا طموح سياسيا لها، وتحديدا اسم "تكنوقراط" من داخل بيروقراطية الدولة غير منحاز سياسيا بشكل لافت لأحد الأحزاب. هذا الطرح موجود على "طاولة الستة" بحيث تقدم شخصية مستقلة بعيدة عن الأحزاب الستة، وتوقع معه تعهدات مسبقة بشأن كيفية إدارة البلاد -بمساعدتها ومشاركتها- في حال الفوز، في إطار فترة انتقالية للعودة لاحقا للنظام البرلماني.

وتكمن تحديات هذا المسار في إمكانية إيجاد شخصية مستقلة فعلا وعلى المسافة نفسها من كل الأحزاب، لكن تكون في الوقت ذاته معروفة وقادرة على منافسة أردوغان، فضلا عن ضمان عدم تبديل الموقف بعد نتائج الانتخابات في حال الفوز.

وأما السياق الثاني، فهو عدم الرغبة أو القدرة على تقديم مرشح توافقي، مما سيعني عددا كبيرا من المرشحين المنافسين لأردوغان. السبب الرئيس لذلك، إضافة لعامل ضعف الثقة الذي تقدم شرحه، مصلحة الأحزاب -لا سيما الجديدة والصغيرة منها- في تقديم مرشحها الذاتي، إذ يخدم ذلك فرص الحزب نفسه في الانتخابات البرلمانية.

ولذلك، فقد أعلن رئيس حزب المستقبل أحمد داود أوغلو عن نيته الترشح للرئاسة "إلا إذا اتفقت طاولة الستة على مرشح توافقي"، وقال حزب الديمقراطية والتقدم إنه سيخوض الانتخابات بشكل منفرد وباسمه وشعاره "مع استمرار التزامه بطاولة الستة"، وهكذا. حتى رئيسة الحزب "الجيد" ميرال أكشنار، التي طالما رددت أنها لن تترشح للانتخابات الرئاسية -كما في عام 2018- لرغبتها في أن تكون "رئيسة الوزراء في ظل النظام البرلماني المقبل"، ثمة أحاديث باحتمال ترشحها بعد تراجع فرص كمال كليجدار أوغلو، مرشحا توافقيا أو باسم حزبها.

كون الانتخابات الرئاسية ستحتاج على الأغلب إلى جولة إعادة هو أكثر الأمور التي تجعل رؤساء الأحزاب، لا سيما الكبيرة منها، تتشبث بالترشح، رغبة من كل منهم في أن يكون هو المرشح الذي سينافس أردوغان في الإعادة، وسعيا لحصد أصوات أحزاب المعارضة جميعها في مواجهته لضمان الفوز.

في الخلاصة، يبدو المشهد ضبابيا في أوساط أحزاب المعارضة في ما يتعلق بالمرشحين المحتملين لمنافسة الرئيس التركي. صحيح أن البعض يرجع ذلك إلى إستراتيجية مقصودة لعدم منح أردوغان فرصة زمنية كافية لمهاجمة المنافس وإضعاف فرصه، لكن السبب الرئيس والحقيقي هو عدم رغبة/ قدرة هذه الأحزاب على التوافق حتى اللحظة. وهو أمر مرشح للاستمرار حتى لحظة الاقتراع. ويبقي ذلك الصورة غير واضحة حتى ذلك الموعد، إلا أن تستجد مفاجأة غير محسوبة، وحتى ذلك الحين، فالمرجح أن نرى أسماء بارزة من مختلف الأحزاب مرشحين في مواجهة الرئيس التركي.

عن الكاتب

سعيد الحاج

باحث في الشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس