د. عطية عدلان - الجزيرة مباشر

لَدَى انطلاقتها الكبرى وفتوحاتها العظمى؛ توجهت الأمة الإسلامية إلى إعادة هيكلة العالم؛ ليكون أكثر عدلًا، وسعت لتحقيق ذلك بما كانت تملكه آنذاك من اجتماع القدوة والقوة، وانضمام البيان إلى السِّنان، فنشرت العدل بمفهومه الشامل المستمَد من الكتاب العزيز؛ فهل اقترب اليوم الذي يكون فيه للأمة دور في التوَجُّه بالبشرية نحو عالم أكثر عدلًا؟ وإلى أيّ مدىً يمكن أن يؤول هذا الإنجاز -إن تحقق- إلى مقدمات تمهد لما هو أقرب لطموحات أمتنا الإسلامية؟ تساؤلات تهاجم خيالك الهادئ -وأنت تقرأ كتاب “نحو عالم أكثر عدلًا”- كأنّها أمواج تغزو شاطئًا ساكنًا قارًّا.

“لا يمكن تركُ مصيرِ البشرية لأهواء عدد محدود من البلدان في عصر يواجه فيه العالم مشكلات جسيمة”؛ هذا هو المنطلق الذي كثيرًا ما كان “المؤلف” يُعَبِّرُ عنه في خطاباته بقوله: “العالم أكبر من خمس”؛ مشيرًا إلى الدول التي تملك -بالعسف- حقَّ “الفيتو”، وإذا كان الرئيس قد توسّع في ذكر الأسباب؛ فإنّه استطاع في مدخل كتابه أن يوجزها في هذه اللفتة الخاطفة: “وكما أنّ عصبة الأمم التي أُسّست عقب الحرب العالمية الأولى قد أخفقت في تأدية مهامها ووقفت موقف المتفرج من الفترة التي اتجهت نحو الحرب العالمية الثانية؛ فكذلك استمرارية البنية الراهنة لمجلس أمن الأمم المتحدة قد يقودنا إلى معاناة جديدة ودمار عظيم”، وإِذَنْ فالرئيس أردوغان يَتَغَيَّا إعادة هيكلة الأمم المتحدة ومجلس الأمن؛ من أجل أن يكون العالم أكثر عدلًا، فهل المنطلق كافٍ للتوجه نحو الغاية؟

عندما أَقْحَمَ “ستيفن بنكر” القولَ بأنّ “شيئًا ما في الحداثة ومؤسساتها الثقافية قد جعلنا أكثر نُبلًا”، واستطرد في التجديف والإقحام العنيف؛ ذاكرًا بعض فظائع ما قبل الحداثة: الوحشية للتسلية.. محاكم التفتيش.. القتل الجماعيّ لحيازة العقار.. التضحية بالبشر لإرضاء الخرافة، ردَّ عليه “ديفيد بيرلنسكي” قائلًا: “هذا بالأحرى تقويمٌ أَدَقَّ للقرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين”، واستطرد ذاكرًا ما لم يَعُدْ يُنكَر من فظائع الحضارة المعاصرة التي ارتكبتها في حقّ الإنسانية، وهو ذاته ما تعرّض له الرئيس في كتابه هذا؛ من أجل دعم المنطلق وتقوية المسوغات الداعية إلى إعادة الهيكلة.

لم يكتف الكتاب بالوقوف عند ما وقف عنده المنَدِّدون بالحروب والمجازر التي ارتُكبت في حق الإنسانية، وإنّما توسّع في اتجاه إثارة القضايا التي تعمقت وتجذرت بسبب غياب دور الأمم المتحدة: الهجرة القسرية.. الإرهاب الدوليّ.. افتقاد الأمن.. عدم الاستقرار.. الأزمة السياسية.. الحوكمة العالمية.. الضبابية الاقتصادية.. انعدام التوازن في الدخل.. شيوع الفقر.. المشكلات البيئية.. اتساع البطالة.. انتشار الأوبئة.. الإقصاء الاجتماعي.. الإسلاموفوبيا.. التطرف اليميني.. معادة اللاجئين.. صعود اليمين؛ مشيرًا إلى أنها مشكلات تتجذر بعد نهاية الحرب الباردة. والمثير في الكتاب أنّه وهو يسوق هذه المشكلات أَدْغَمَ في ثناياها عبارات كأنّها وكزات موجَّهة إلى الضمير الإنسانيّ، من مثل: “إنّ الغرقى في البحر الأبيض المتوسط ليسوا اللاجئين وحسب، بل إنسانيتنا وقيمنا العالمية أيضًا”.

وإذا كان الظلم الأكبر الذي ترعاه الأمم المتحدة ومجلس الأمن يقع بالدرجة الأولى على العالم الإسلاميّ؛ فإنّه من الطبيعيّ أن يوليه الكتاب اهتمامًا كبيرًا، فقد تطرّق إلى قضية سوريا، وسكوت الغرب ومجلس أمنه عن نظام الأسد، مع ردِّ اللاجئين السوريين وإغلاق الأبواب في وجوههم، وقضايا العراق وفلسطين وميانمار، حتى لقد تطرّق إلى الموقف الشائن من الربيع العربيّ قائلًا: “وإذا كان نزول الشعوب العربية في الشرق الأوسط إلى الشوارع مطالبين بلقمة العيش والعدالة والحرية قد أشعل بصيص أمل لمستقبل الشرق الأوسط؛ فإنّه مَكَّنَ الغرب من الحصول على أهدافه المرتكزة على مصالحه لا مصالح الشعوب، على استمرار الوضع الراهن بسبب موقف الغرب البعيد كل البعد عن الصدق”.

“علينا جميعًا أن ندرك أن هذا النظام لم يعد صالحًا للاستمرار، فإما أن نستسلم لهذا التشاؤم القائم، وإما أن نبذل قصارى جهدنا لإقامة نظام عادل مستدام، ونحن لا ننوي الاستسلام”؛ هكذا بصراحة يعلنها الرئيس، ويبني اعتقاده بأنّ هذا النظام لم تعد له شرعية تبرر استمراره وبقاءه على ثلاثة محاور، الأول: ما سلف ذكره من الأزمات التي تعجز الأمم المتحدة ومجلس الأمن عن حلها، الثاني: الجرأة التي أطاحت بهيبة هذه المؤسسات الدولية من قبل الدول الكبرى، وقد ذكر الكتاب أمثلة عديدة على ذلك، منها: غزو أمريكا للعراق 2003 بدون موافقة، واعترافها بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل سفارتها إليها بالمخالفة لقرار مجلس الأمن رقم 478 لسنة 1980 ودون اكتراث بإدانة الأمم المتحدة بأغلبية 128 عضوًا مقابل 9 فقط، أمّا المحور الثالث فهو اختلال التمثيل، من جهات عديدة: الديموغرافيا والجغرافيا والثقافة والقوة الاقتصادية، فأوربا التي لا تمثِّل أكثر من 5% من سكان العالم تُمثَّل في مجلس الأمن بدولتين، بينما نجد قارتي أفريقيا وأمريكا الجنوبية ليستا ممثلتين إطلاقًا، وبينما نجد 4 دول مسيحية تتمتع بحق النقض في مجلس الأمن لا نجد العالم الإسلامي -البالغ تعداده مليارا ونصف مليار- ممثلًا على الإطلاق.

ليس طبيعيًّا ولا مقبولًا أن نطالب بحكومة عالمية؛ لذلك لا يصح أن يذهب الطموح إلى هذا الأفق الخياليّ، وفي المقابل لا يكفي أن نرى العالم اليوم يتجه إلى التعددية القطبية مودعًا تلك الحالة الاستثنائية الشاذة التي أرادت أمريكا فرضها على العالم؛ وإذَنْ فلابد من حلٍّ وسط، ويراه الرئيس متمثلًا في إعادة هيكلة للأمم المتحدة ومجلس الأمن، ويتلخص المقترح في محاور عملية، الأول: إلغاء حق “الفيتو”، الثاني: إلغاء اختصاص دول معينة بالعضوية الدائمة، وجعل ذلك متداولًا بالانتخاب من الجمعية العامة لعدد من الدول، مع تأقيت المدّة وإلغاء الدائمية، الثالث: رعاية العدالة في التمثيل، وهل يمكن أن يتحقق ما يريده الرئيس، أعتقد أنّه عزيز، ومع ذلك فالسكوت عنه مَثْلَبة، والنضال لأجله مَنْقَبة.

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس