صالحة علام - الجزيرة

بالتزامنِ مع تطوُّرات العمليَّة العسكريّة التي تحدث على الأراضي الفلسطينية في غزّة اندلعت حربٌ إلكترونيَّةٌ شعواءُ، كالسيل المنهمر دون توقُّف، شملت جميعَ وسائلِ التواصل الاجتماعيّ، وكأنَّ العالم كلَّه قرَّر الاصطفافَ بغيةَ إهالة التُراب على المشهد، وإثارة حالةٍ من البلبلة والتّخبُّط بين مُتابعي الحدث، وحجب الرؤية تمامًا عن مُتصفِّحي هذه المواقع، الذين يعوِّلون عليها للحصول على المعلوماتِ السريعةِ المُتلاحقة، ويعتمدونها في متابعتِهم أكثرَ من اعتمادِهم على الإعلام الرسميّ لدولهم.

ويبدو أنَّ أصحابَ المصالح والمُتصهينين أُصيبوا بصدمةٍ مروِّعة جرّاء رؤيتِهم ردودَ أفعال الشعوب العربيَّة والإسلاميَّة المُتضامنة مع أهلنا في غزَّة، ومدى الفرحة العارمة التي عمَّت أرجاءَ المعمورة، عقب اندلاع طوفان الأقصى، وإعلان ما حقَّقته المقاومة الفلسطينيّة من انتصارات؛ بل مُعجزات، في مُواجهة دولة الاحتلال، وكشفها عن هشاشة وضعف وعورات النّظام الإسرائيليّ، الذي طالما صدَّع رؤوسَنا بقوَّته التي لا تُقهر، واستعداداته التي لا تهزمُ، وقُبّته الحديدية، وسياجه الحدوديّ اللذين يوفّران له الأمن والأمان، ويحولان بينه وبين أصحاب الأرض والحقّ.

هديرُ الأصوات التي تهتفُ باسم الأقصى وفلسطينَ، والدعواتُ التي انهالت من كلِّ حدبٍ وصوبٍ على الأنظمة العربيَّة المتاخمة للأراضي الفلسطينيّة مطالبةً بفتح الحدود، ومنح الشعوب العربيّة الفرصة في النَّيل من عدوٍّ محتلّ مغتصب للأرض، ومدنِّس للمقدّسات، وناهبٍ للثروات، وقاتلٍ للأطفال والنساء، ولّدت حالةً من الفزع والخوف لدى دولة الاحتلال ومُؤيّديها، خشيةَ تصاعد الأمور، وانفلاتها وخروجها عن السيطرة من جانب أُولي الأمر في العالم العربيّ تحديدًا.

بثّ الأكاذيب وتفعيل نظريّة المؤامرة

دفعهم هذا الخوفُ إلى تأليف الروايات، وبثّ الأكاذيب، وتفعيل نظرية المُؤامرة في اجترار الحديثِ عمَّا يُسمّى "صفقة القرن"، وربطها بطوفان الأقصى، باعتباره مقدمةً ضروريةً للبدء في تنفيذها، من خلال توظيف اللجان الإلكترونيّة الخاصّة به، والمؤيدة له في الدّول الأخرى، المنتشرة على جميع مواقع التواصل الاجتماعيّ.

والتي تولَّت مهمةَ نشر صور مزيفة يتمُّ من خلالها استعراضُ أسلحة حديثة، يدَّعون زورًا وبهتانًا وجودها بحوزة أفرادِ المقاومة الفلسطينيّة، يتمّ استخدامها في عملية طوفان الأقصى ضد " المدنيين من المستوطنين" .

إلى جانب الحديثِ عن وجود اتّفاق سريّ بين قيادات دولة الاحتلال وكلّ من إيران، وتركيا، وقادة حماس ورجال المقاومة، غضّت بموجِبه إسرائيلُ الطرفَ عن تحرّكات المقاومين، وأوقفت كاميرات المُراقبة على الحدود، وعطَّلت القُبَّة الحديدية، وسمحت لهم بالدخول وإعمال القتل والأَسْر ضد مُستوطني أربعَ عشْرةَ مستوطنة مُتاخمة لغزة!!.

وبحجمِ حالة الرعب التي يعيشونها في دولةِ الاحتلال، جاءت مبالغتُهم وتهويلهم لإشاعة تحرّكات وأمور غير منطقيّة، يرفضها عقلُ طفلٍ صغير لا يفْقه من الأمر شيئًا، وهي أكاذيبُ يردّدونها باستمرارٍ ليلًا ونهارًا مصحوبةً بصورٍ لعددٍ من القيادات الإسلامية، والعربية، والفلسطينيّة التي يدّعون تآمرها مع الكيان الصهيونيّ، مع موسيقى حماسية تحذيرية تُثير القلق، وتبثّ الخوفَ والرعب، وتصيبُ العقل بالشلل التامّ.

لم يفكرْ أحدٌ ممن يثق في صحة هذه الأكاذيب، ويقوم بترديدِها، في أنَّه كان من المنطقيّ والأولى بالفلسطينيين القَبول بكل ما قُدم لهم من إغراءات، كالتجنيس بإحدى جنسيات الدول الأوروبية والإقامة بها كمواطنين، أو العَيش داخل دولة الاحتلال، والتوقُّف عن المطالبة بأرضهم المغتصبة، وثرواتهم المنهوبة، ويكْفون أنفسَهم كلَّ ما قدّموه من تضحيات، ووقف نزيف الدماء، وإنهاء مواكب الشهداء، وتوفير هذا الكَمّ الهائل من المعاناة والمهانة التي تتعرّض لها النساء والأطفال، والجحيم الذي يعيشون فيه منذ عشرات العقود، ويقنعون بالعيش داخل دولة الاحتلال، ويكْفون أنفسَهم وذويهم كلَّ ما قدّموه من تضحيات وما شيّعوه من شهداءَ على مدى تاريخ النكبة الفلسطينية!!، قليلًا من العقل، وقليلًا من المنطق فيما تنشرونه علينا، وما تحذّروننا منه.

واشنطن وإعلان الحرب على غزة

حتّى حينما أعلنت الولاياتُ المتحدةُ الأمريكيةُ على لسان وزير دفاعها لويد أوستين عن تحرُّك حاملة الطائرات الأمريكية "جيرالد فورد" باتّجاه شرق المتوسط لتقديم المساعدة لإسرائيل، ومساندتها في التصدّي للهجوم الذي تتعرّض له من جانب الفصائل الفلسطينيّة في غزة، والتي تعد الأكثر قدرةً عسكريةً في ترسانة الأسلحة الأمريكية، إذ تحمل على متنها عدةَ طائرات من طرازات: إف – 35، وإف 16، وإف 15، ومدمرات " روزفلت"، و" رامدج"، و " توماس هادنر"، و "كارني"، وخمسة آلاف جندي من سلاح البحرية، ويرافقها طرادُ " نورماندي"، اعتبروا هذا التحرّكَ دليلًا على صحة ما يروّجونه من أكاذيبَ، وما ينشرونه من شائعاتٍ،  ولم يحاول أحدٌ أخذَ الأمر على محمل الجِدّ، واعتبار هذا التصريح إعلانًا رسميًا للحرب من جانب أمريكا ضد إخوانهم الفلسطينيين الذين لا حولَ لهم ولا قوة، الذين وجدوا أنفسَهم بين ليلة وضحاها يواجهون دولةً عُظمى بإمكاناتهم البسيطة المحدودة لمجرد دفاعهم عن أرضهم المغتصبة، ومحاولتهم ردَّ اللطمة لوجه محتلّ غاصب، دنَّس المقدّسات، ولم يراعِ حُرمة النساء والأطفال.

الخطورةُ الحقيقية التي يمثلها تداولُ مثلِ هذه الأكاذيب والشائعات، تكمنُ في تماهي الكثيرين معها، وتدافعهم وراءَها، وتصديقها دون وعي، بل والتطوع بنشرها على صفحاتهم، وإرسالها لجميع من لديهم من الأهل والأصدقاء، دون تمحيصِها أو التفكير في مدى صحّتها، ليصبحوا دون قصد منهم إحدَى الأدوات المهمة التي تعوّل عليها إسرائيلُ، وتستخدمها ضمن جيشها الإلكتروني ضد إخوانهم الفلسطينيين في حربها المفتوحة معهم.

أهداف الحرب الإلكترونيّة ضد طوفان الأقصى

نشْرُ هذه الأكاذيب والشائعات في هذا التوقيت تحديدًا، وبهذه الكثافة على مواقع التواصل الاجتماعي، أثناء عملية طوفان الأقصى، يهدفُ إلى تحقيق عدة أمور يجب الانتباه إليها، والحذر عند التعاطي معها، استقبالًا وإرسالًا، والتي منها:

1 – إثارة الشكوك حول أسباب العملية، وسرّ اسمها، وتوقيتها، ومن يقف وراءَها، والأهداف التي يريدون تحقيقها.

2 – نشر حالة من اليأس والانهزامية في نفوس العرب والمسلمين في حال اقتناعهم بوجود مؤامرة ضدهم وضد ثوابتِهم المرتبطة بالقضية الفلسطينية بل والتسليم ببدء تنفيذ السيناريو المعد سلفًا.

3 – القضاء على حالة التعاطف والتضامن والدعم المعنوي الذي تقدمه الشعوب العربية والإسلامية للمقاتلين الفلسطينيين في حربهم العادلة ضدّ كيان محتلّ ومغتصب.

4 – إشاعة حالة من الاستنفارِ لدى الدول المجاورة لحدود فلسطينَ المحتلة، خاصةً مِصرَ، للوقوف في وجه إخوانهم الفلسطينيين الذين قد تدفعهم حالة الحرب وانهيار مدنهم بالكامل واختفاء كافة مظاهر الحياة فيها للجوء إليها.

5 – تشويه صورة التنظيمات الفلسطينية التي تخوض حربًا شريفة ضد مخططات دولة الاحتلال الرامية إلى إحكام السيطرة على كل الأراضي الفلسطينية، وتفريغها من أصحابها وساكنيها، وإظهارهم بمظهر الخونة والمتآمرين.

ويمكرون ويمكر الله

لذا علينا جميعًا الانتباه لما يحاكُ في الظلام ضدنا وضد فلسطينَ، قضية العرب والمسلمين الأولى، من مؤامرات، وما يشاعُ من أكاذيبَ مضللةٍ على أنه معلوماتٌ موثّقة، وتحذيرات عاجلة، فجميع هذا يستهدفنا نحن، الرأي العام العربي والإسلامي، لإشاعة اليأس في قلوبنا، وإخراجنا من معادلة حرب تحرير الأرض، وفكّ أَسر الأقصى، وترك إخواننا في فلسطين يواجهون بمفردهم قوةً عسكريةً غاشمةً تساندها قوى الظلام في كل مكانٍ حتَّى لا يسْطعَ نورُ الحقّ، وينجلي ليلُ الظلم، لكن هيهات " ويمكرون ويمكر الله، والله خير الماكرين"، صدق الله العظيم.

عن الكاتب

صالحة علام

كاتبة وصحفية مصرية مقيمة في تركيا


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس