د. عطية عدلان - الجزيرة نت

بقدر غير يسير من الأمل الممزوج بالوجل يرقب العالم كله الهدنة الجارية الآن بين “حماس” والكيان الصهيونيّ، ويتساءل الجميع، وتذهب تساؤلاتهم في كل اتجاه يتعلق بالحدث: هل ستلتزم إسرائيل ببنود الهدنة أم ستمارس -كعادتها- الأساليب الملتوية لخرق الهدنة؟ هل هناك أمل في استدامة هذه الهدنة مدة أطول لتكون ذريعة لسلام دائم أم إنّها ليست سوى استراحة محاربين تعود بعدها الحرب إلى ما كانت عليه من الضراوة؟ هل يمكن أن تستثمر المقاومة هذه الهدنة في تعديل مواقعها وتعظيم إمكاناتها أم أنّ إسرائيل ستكون هي المستفيد من هذه الهدنة عسكريًّا واستخباريًّا؟ لكنّ السؤال الذي ربما لا يفكر فيه الكثيرون فنتوقع أن يكون على هذا النحو: ما الفروق التي تجعلنا نرحب بهذه الهدنة بينما لا نرحب بمعاهدات السلام بين إسرائيل والدول العربية وما ترتب عليها من التطبيع؟

الهدنة مشتقة من الهدن، وهو السكون، لأن بها تسكن الحرب، والمهادنة هي المصالحة والمسالمة، وعقد الهدنة جائز بشروطه الشرعية، عند المذاهب الإسلامية كافة: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، والزيدية، والإمامية، والإباضية، وغيرهم، وقد نُقل الإجماع على جوازاها بالشروط المقررة عند العلماء، لكن دعوى الإجماع يردها أن الظاهرية ومنهم ابن حزم قالوا بأن المهادنات منسوخة، ومن أدلة جواز الهدنة -أو عقد السلم أو معاهدة السلام- بالشروط الشرعية: أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هادن قريشًا في الحديبية واتفق معهم على ترك الحرب عشرة أعوام، نُفِّذَ منها عامان، مع قول الله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} (الأنفال: 61)، أي: “وإن مالوا إلى مسالمتك ومتاركتك الحرب -إما بالدخول في الإسلام وإما بإعطاء الجزية وإما بموادعة ونحو ذلك من أسباب السلم والصلح- فمِلْ إليها وابذل لهم ما مالوا إليه من ذلك”.

اشترطت المذاهب كافة لجواز عقد الهدنة أن يشتمل على مصلحة ظاهرة وراجحة للمسلمين، يقول الإمام السرخسي الحنفيّ: «وإذا طلب قوم من أهل الحرب الموادعة -أي الهدنة- فإن رآه الإمام خيرًا للمسلمين فعله… فإن رأى الموادعة خيرًا فوادعهم ثم نظر فوجد موادعتهم شرًا للمسلمين نبذ إليهم الموادعة وقاتلهم»، ويقول الخرشي المالكيّ: «فإن لم تظهر المصلحة بأن ظهر المسلمون عليهم لم يجز»، ويقول زكريا الأنصاري الشافعيّ: «أن يكون للمسلمين فيها مصلحة… فإن لم يكن لهم فيها مصلحة لم يهادنوا»، ويقول البهوتي الحنبليّ: «ويجوز عقد الهدنة عند المصلحة»، ويقول صاحب التاج المذاهب في الفقه الزيديّ: «يجوز للإمام أو نائبه عقد الصلح مع الكفار والبغاة لمصلحة»، ويقول جعفر بن الحسن الهزلي الإماميّ: «وهي جائزة إذا تضمنت مصلحة للمسلمين»، ويقول الفقيه السالمي من الإباضة بجواز المهادنة كلما اجتهد الإمام في تقدير المصلحة المتعلقة بها.

كما اشترطوا جميعًا على ألا يشتمل عقد الهدنة على شرط فاسد يخالف الشرع، قال الإمام محمد بن الحسن الشيبانيّ: «وإذا طلب المشركون في الموادعة أن نعطيهم رهنًا من رجال المسلمين على أن يعطوا من رجالهم رهنًا مثل ذلك، فهذا مكروه لا ينبغي للمسلمين أن يجيبوهم إليه»، وقال الخرشي: «فإن تضمن عقد المهادنة شرطًا فاسدًا لم يجز»، وقال صاحب التاج والإكليل: «من شرط المهادنة الخلو من شرط فاسد»، وقال في أسنى المطالب: «وأن يخلو عقد الهدنة عن كل شرط فاسد كسائر العقود، وذلك كالعقد على أن يترك لهم العاقد مسلمًا أسيرًا أو يرد إليهم من جاءت إلينا منهم مسلمة»، وفي الكافي لابن قدامة: “يجوز في عقد الهدنة شرط رد رجال أهل الحرب كما حدث في الحديبية، ولكن لا يجوز شرط رد النساء”، وقال: جعفر بن الحسين الهزليّ: «ولو وقعت الهدنة على ما لا يجوز فعله لم يجب الوفاء»، وهناك شروط أخرى غير هذه الشروط، كشرط عدم التأبيد، لكنّ هذين الشرطين اللذين اتفق عليهما كل القائلين بالجواز وهم المذاهب الأربعة ومعهم غيرهم هما أهم الشروط.

أمّا ما يجري اليوم بين “حماس” والكيان الصهيونيّ من هدنة، فمن الواضح أنّها محققة لمصالح كبيرة، وأنّها لم تشتمل على أيّ شرط فاسد يخالف شرع الله، لذلك فرحَتْ بها قلوب المؤمنين في أرض الإسلام كلها، بل وفرح بها كل صاحب فطرة سوية من خلق الله، أمّا ما جرى من قبل فيما سمي بمعاهدات السلام العربية الإسرائيلية، كمعاهدة “كامب ديفيد” بين مصر وإسرائيل، ومعاهدة وادي عربة بين الأردن وإسرائيل، ومعاهدة “أوسلو” بين الفلسطينيين وإسرائيل، هذه المعاهدات جميعها وجميع ما تلاها من معاهدات تطبيع لم يتوافر في واحدة منها شرط واحد من شروط الجواز الأربعة التي قررها العلماء من المذاهب كافّة لجواز الهدنة، وإذا كان غياب شرط واحد يكفي لبطلان العمل، لكون الشرط هو “ما يلزم من عدمه العدم”، فإنّ غياب الشروط بتمامها يؤكد أنّ هذه المعاهدات من أبطل الباطل، فلم تكن محققة للمصلحة، بل ترتب عليها مفاسد جمة، يعلمها كل متابع لمآلات الأوضاع في المنطقة بعد معاهدات التطبيع، وقد اشتملت جميعها على شروط فاسدة كثيرة، منها شروط التعاون الأمني، والشروط المؤثرة في جريان ميثاق الدفاع المشترك بجامعة الدول العربية، إضافة إلى أنّها لم تتوافر فيها الشروط الأخرى.

ما لا يخالف فيه أحد أنّ الوفاء بالعهود واجب شرعيّ كبير، قال تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ” (المائدة: 1)، فإذا خاف المسلمون من غدر عدوهم لم يغدروا، وإنّما عليهم أن ينبذوا إليهم عهدهم، فيعلموهم بانقضاء العهد، ليكونوا جميعًا سواء في العلم بانقضاء العهد، قال تعالى: “وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ” (الأنفال: 58)، وعندئذ يمكن أن ينهي المسلمون الهدنة بهجوم عسكريّ، ويمكن قيام المسلمين بإلغاء شروط مجحفة بإرادة منفردة، وكل ذلك وقع في عهود الإسلام الأولى، وقد تعرض القانون الدولي لبعضها، والله أعلم.

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس