رامي الجندي - ساسة بوست

شهدت العلاقات العربية التركية منذ فوز حزب العدالة والتنمية في الانتخابات البرلمانية عام 2002 تغييرًا كبيرًا عما كانت عليه في الحكومات التركية السابقة وذلك بفضل الرؤية الاستراتيجية التي تبناها الحزب برئاسة أردوغان آنذاك على الأقل مِن الطرف التركي اتجاه المنطقة العربية، حيث يَعْتَبِرُ الحزب أن الدول العربية هي رافدةٌ لتركيا وشريكٌ لها.

تَنْظُرُ تركيا إلى القضية الفلسطينية على أنها قضية محورية ومركزية، وقضية المسلمين جميعًا، وأنها عاملٌ أساسي في الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط في حال تم التوصل إلى اتفاق سلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ولذلك تُعتبر تركيا طرفًا داعمًا للفلسطينيين وليست حليفًا لها.

من المفترض أن تشهد العلاقات التركية الفلسطينية مزيدًا من القوة وتوحيد الرؤى والجهود، خاصة بعد تدهور العلاقات التركية الإسرائيلية منتصف 2010 بسبب اعتداء الأخيرة على سفن أُسطول الحرية التركي “مافي مرمرة”، والتي كانت في طريقها إلى غزة لكسر الحصار عنها مما أدى إلى مقتل عشرة مواطنين أتراك في المياه الدولية، وما تَبِعَ ذلك مِن خفض مستوى العلاقات بين البلدين وما صَاحَبه مِن مُشادات كلامية وتصريحات سياسية على أعلى المستويات؛ كانت إحداها في منتدى دافوس بين رئيسي الوزراء التركي أردوغان والإسرائيلي بيريز.

تتميز تركيا بأنها دولة متقدمة في مواقفها وتعاملها مع القضية الفلسطينية، خاصة في ظل حكومات العدالة والتنمية المُتَعاقِبَة، وينطلق ذلك مِن ثلاثة مبادئ رئيسية: أولها ثوابت مبدئية تتمثل في إيمان تركيا أن القضية الفلسطينية قضية عادلة؛ وأن احتلالًا إسرائيليًا غريبًا قام باحتلال الأراضي الفلسطينية وطرد الشعب منها وسرق ثرواته، ورغم عدالة ذلك إلا أنه لا يوجد داعم حقيقي للشعب الفلسطيني في صراعه مع مُحتَلِّه؛ أما المبدأ الثاني فهو قانوني؛ حيث تصدر عن مؤسسات الشرعية الدولية قرارات تُنْصِف القضية الفلسطينية نوعًا ما وتُدين الاحتلال الإسرائيلي، إلا أنَّ الأطراف المُتَحَكِّمة في الساحة الدولية بسبب علاقاتها مع الاحتلال الإسرائيلي وضغط الأخيرة عليها؛ لا تُريد تطبيق هذه القرارات مع وجود عامل آخر أيضًا هو ضَعْف المُمَثِّل الفلسطيني. وثالثها سياسي؛ يكمن في أن القضية الفلسطينية هي قضية محورية في الشرق الأوسط وأحد عوامل الاستقرار في المنطقة، وأن عدم وجود اتفاق سلام قابل للحياة يعني مزيدًا مِن رَدَّات الفِعل والتي تُصيب تركيا بشكل خاص التي تسعى لأن يكون لها وضع استراتيجي إقليمي في المنطقة.

بالإضافة إلى ذلك؛ كانت تركيا هي الدولة الوحيدة غير العربية التي قامت باستقبال عددٍ مِن الأسرى الفلسطينيين المُحررين في صفقة وفاء الأحرار بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي، ثم قام رئيس الوزراء أردوغان ووزير الخارجية أوغلو ورئيس المخابرات التركية هاكان فيدان آنذاك بالاجتماع بهم فور وصولهم تركيا ثم بعد ذلك منحهم الجنسية التركية.

لا شك بأن نتائج الانتخابات البرلمانية لم تُؤَهِّل أيًا مِن الأحزاب لتشكيل حكومةٍ بِمُفرَدِه فضلًا عن ائتلافية، كما أن دورة حياة الحكومات الائتلافية في تركيا منذ تأسيس الجمهورية تتراوح ما بين عام أو عامين على أقصى تقدير، وسرعان ما ينقضي غزلها وتعود من جديد إلى انتخابات أخرى.

بالنظر إلى البرامج الانتخابية للأحزاب التركية؛ فنجد أن الأحزاب التركية الثلاثة التي تأهلت لدخول البرلمان مُعَارِضة أيديولوجيًا لتوجهات حزب العدالة والتنمية وسياساته ومواقفه مِن قضايا الشرق الأوسط؛ خاصة في ظل الأزمات التي تمر بها كلًا مِن سوريا ومصر واليمن وليبيا والتي تُعتبر شأنًا داخليًا بخلاف فلسطين والتي يعتبرها الأتراك صراعًا مع الاحتلال الإسرائيلي.

في ذات الوقت؛ تدعو الأحزاب إلى علاقات جيدة مع الولايات المتحدة الأمريكية قائمة على أساس الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة، أما في العلاقة مع الاتحاد الأوروبي؛ فإنها عدا حزب الشعوب الديمقراطية الكردي تؤيد الانضمام إليه كونه يُبعِدُ تركيا عن سياسات العدالة والتنمية والمتوجهة نحو الانفتاح على الشرق الأوسط بعد تعثر مفاوضات تركيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، والذي يعني ذلك عدم وجود الشرق الأوسط وفلسطين تحديدًا ذات أولوية في سياساتها الخارجية.

كما أن المشهد التركي المُرتَبِك قليلًا بسبب نتائج الانتخابات الأخيرة سيتمخض عنه حكومة ائتلافية ضعيفة؛ وستكون الأولوية لديها هي العمل على الاستقرار الداخلي السياسي والاقتصادي، حيث كان مِن أحد أسباب تراجع حزب العدالة والتنمية هو تراجع نمو الاقتصاد التركي في العامين الأخيرين والذي وصل إلى نسبة نمو بلغت 2.8% فقط مقارنة بنسب النمو الاقتصادي المرتفع خلال الأعوام الماضية وأيضًا التراجع في سعر صرف الليرة التركية. كما كان لبعض الأحداث الأمنية في تركيا خاصة أحداث جيزي بارك في ميدان تقسيم منتصف 2013 دورًا في ذلك، هذا اقتصاديًا؛ أما سياسيًا فقد كانت اللهجة الحادة المرتفعة لرئيس الجمهورية أردوغان في السياسة الخارجية تجاه النظامين المصري والسوري وداخليًا تجاه الأحزاب التركية مِن أسباب خسارة الحزب لأصواته الـ 9%.

إن أي تغيير في السياسة الخارجية في الدول الديمقراطية لا بد أن يمر بالطرق القانونية المعتمدة لدى مؤسساتها التشريعية لإقرارها، وبالنظر إلى الشأن التركي، فإن حزب العدالة والتنمية برئاسة أحمد داوود أوغلو هو الحزب الحاصل على العدد الأعلى مِن المقاعد البرلمانية، كما أن رئيسه السابق هو رئيس الجمهورية حاليًا والذي يقوم بالتكليف بتكوين الحكومة والموافقة على تشكيلتها أو رفضها لإعادة تشكيلتها أو الدعوة إلى سيناريوهات أخرى إحداها إعادة الانتخابات.

ذلك أن حزب العدالة والتنمية بشكل أساسي هو مُكَوِّن وفَاعِل رئيس في المشهد التركي، وهندسة السياسة الخارجية؛ وبالتالي فإن أي تغيير سيطرأ على السياسة الخارجية للبلاد بعد ائتلاف حكومي يقوده العدالة والتنمية؛ لا بد أن يُطرَح أولًا للموافقة عليه في البرلمان وهو ما سترفضه كتلة الحزب البرلمانية أو تُعيقُه – على الأقل – في حال كان مساسًا بسياساته التي بناها وتبناها طوال الأعوام الثلاثة عشر الماضية، كما أن التغيير في السياسة الخارجية التركية مرهونٌ بتغيُّرٍ ما في الساحة الإقليمية والدولية مِن حولِها، وتحديدًا في المشهدين القاتِمَين سوريا والعراق سواء عدم استقرار أنظمتِهِما السياسية أو فيما يتعلق بداعش وصولاتِها في أراضيهِما.

وبالعودة إلى المبادئ الثلاثة لتركيا مِن القضية الفلسطينية؛ فإن موقف أنقرة لن يشهد تغييرًا جوهريًا في دعمها للقضية الفلسطينية، ذلك أن دعمها لم يكن مع كيان سياسي مُستقِل أو دولة ذات سيادة، بل مع قضية إنسانية؛ ولكن مِن المحتمل أن يكون هناك إيعاز لقيادات حركة حماس المُقيمين في تركيا بضرورة تخفيف نشاطهم السياسي، وربما يحصل ذلك بِضغط خارجي أو داخلي تجنبًا لأية أزمات مستقبلية.

ختامًا، في خِضَم ذلك، يبدو أن السناريو السيء يكمن في أن تُواجِه غزة وحيدة اعتداءً عسكريًا إسرائيليًا جديدًا عليها في ظل وجود حكومة ائتلافية تركية ضعيفة قادمة، وسط أنباء تتحدث عن محاولات إسرائيلية جديدة ومستمرة لمحاولة رأب الصدع في علاقاتها مع أنقرة بعد أزمة مافي مرمرة، فقد كانت تركيا طوال حروب الاحتلال واعتداءاته السابقة على غزة – على الأقل – ذات صوتٍ عالٍ وسط صَمتٍ عربي ودولي مخزٍ إلا مِن بيانات شجب أو استنكاراتٍ أو دعواتٍ لوقف إطلاق نارٍ متبادلٍ بين الجلاّد والضّحية!

عن الكاتب

رامي الجندي

باحث في الفكر الإسلامي والنهضة


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس