د. عصام تليمة - الجزيرة مباشر

لم يكن خافيًا على كل راصد للحملات الإعلامية فترة الانتخابات التركية، ما طفحت به وسائل التواصل الاجتماعي، ووسائل الإعلام التي يديرها معارضون أتراك للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، فترة الحملات الانتخابية الرئاسية، بل قبلها بشهور، وربما بضع سنوات.

وكانت الدعاية الأولى لعدد من مرشحي المعارضة، والورقة التي لوّحوا بها لكسب الأصوات، دعاية ترتكز على التحريض على السوريين خاصة، والعرب عامة، ثم اللاجئين من غير الدول الأوربية.

لكن الملاحظ أن الموجة لم تنته بعد انتخابات الرئاسة، وفوز أردوغان بفترة رئاسية ثانية، بل زادت حدتها، ووصلت إلى مرحة خطرة، وخطورتها لا تقف عند الأجانب، أو العرب تحديدا في تركيا، بل سيتعدى خطرها ويستفحل إن لم يتم تدارك هذه الموجة بعلاج ناجع للأزمة من جذورها، وبكل آثارها.

ولعل ما لفت الأنظار إلى خطورة ما يمكن أن تؤدي إليه هذه الموجة، ما حدث مؤخرا لقاصر يمني عمره 14 عاما، بأحد المجمعات السكنية، في مشاجرة عادية مع قاصر تركي قريب من عمره، لتتحول المشاجرة البسيطة إلى تجمع عدد من الأتراك يوسعون القاصر اليمني ضربًا بشكل هستيري، مما دفع أخاه إلى محاولة الدفاع عنه، فانهالوا عليه أيضا ضربًا، ومما زاد الأمر أن المشاجرة لم تكن في شارع من الشوارع، بل في مجمع سكني له أمن خاص من المفترض أن يتدخل في مثل هذه المواقف، بل كان موقف القائمين على الأمن سلبيًّا.

كانت الأحداث االعنصرية من قبل تبدو في معاملة، أو في موقف فيه تذمّر من أيّ عربي ظنًّا من المتعامل بعنصرية أنه سوري، فهناك صورة نمطية عند هذه الفئة بأن أيّ شخص لا يتقن اللغة التركية، فهو أجنبي، وإذا كانت ملامحه توحي بأنه عربي، فهو سوري، فكل عربي سوري، حتى يثبت العكس. وهو ما يلاحظه البعض عند التعامل.

ما الأسباب؟

لهذه الموجة من العنصرية أسباب، وإن كانت توجد في بلاد أخرى بلا شك، لكن الحديث هنا خاص عن حالات معينة، ونسبتها ليست بالضخمة، لكن آثارها وشهرتها هي التي تعطيها هذه المساحة، وليس ذلك تقليلا من شأن المواقف العنصرية، فهي وباء بغيض، وعواقبه وخيمة، سواء كانت مواقف قليلة أو كثيرة.

السبب الأول والرئيس في الموضوع، أن هناك خطابا يبث منذ فترة، لأهداف سياسية حزبية معروفة، يعرفها ويراها الراصدون للأمر، استُغلّت فيه حالات الغلاء والتضخم التي تعاني منها تركيا والأتراك والمقيمون فيها منذ فترة، وبدلا من أن يشار إلى السبب الحقيقي، وأن التضخم موجة عالمية، ولا يختص بتركيا وحدها، تُترك الأسباب الحقيقية، ويشار إلى أن العرب هم السبب، فهم الذين جعلوا الأسعار ترتفع، وهو كلام عارٍ تماما عن الصحة.

هذا إضافة إلى شائعة بأن موارد الدولة تنفق على العرب، وبخاصة السوريين، والحقيقة أن مخيمات السوريين اللاجئين، العدد القاطن فيها لا يقارن بعددهم داخل المدن، وهم يعملون، وليسوا عالة، بل هم أصحاب مهن وشركات، أضافت إلى سوق العمل التركي ولم تكن خصمًا له.

والعرب بوجه عام والسوريون بوجه خاص، حين دخلوا سوق العمل في تركيا، دخلوها مستثمرين، وأصحاب شركات ومصالح، ومن دخل سوق العمل من باب العمالة والوظيفة، كان إضافة لا خصما، فوجود سياح عرب وأجانب في تركيا، جعل للعربي المتقن للغة التركية والأجنبية، مكانا في عمله، فهو عامل إضافة وجذب لمال السائح، وليس العكس، وهو نفس ما يحدث للتركي الذي يتقن لغة إضافة إلى لغته، فيجعله ذلك يتميز عن زميله التركي في المرتب والعمل.

من الأسباب التي لعب عليها خطاب الكراهية: جهل من يقومون بالعنصرية بالعرب وباللغة العربية، فتحول الخطاب من الموقف من السوريين إلى موقف من العرب، وموقف من اللغة العربية، وهو يدل على جهل شديد، فأكبر حزبين يقومان بهذه الحملات، يحوي اسم كلّ منهما كلمة عربية، فكلمة: الجمهور، وكلمة: الظفر، في اسمَي الحزبين الشهيرين هما كلمتان عربيتان، وهو ما نبّه إليه أحد الأئمة الأتراك، منتقدًا موقفهما من العرب والعربية، وانزعاجهما من اللافتات العربية في تركيا.

إضافة إلى أنه في اللغة التركية نفسها، هناك نسبة ليست قليلة من الكلمات ذات الأصول العربية، بل الكلمات العربية الصريحة، وكذلك كثير جدا من الأسماء، وقد كانت هناك محاولات حثيثة بعد إسقاط الخلافة العثمانية، وتأسيس الجمهورية التركية، وإلغاء الحرف العربي، لمحو الكلمات العربية، لكن اللجنة التي تشكلت لذلك، بعد سنوات، رفعت تقريرا إلى مصطفى كمال أتاتورك، أخبرته فيه أن هناك نسبة ليست قليلة من الكلمات لا يمكن تحويلها لأن الجذر والكلمة ومشتقاتها كلها عربية، وهناك كلمات أمكنهم تحويلها إلى اللاتينية، لكن بقيت نسبة ليست قليلة، ولا تزال حتى الآن في اللغة التركية.

خطاب الكراهية إذن يحتاج إلى مناخ، وأشخاص لديهم الاستعداد له، ولو أننا حرمنا هذا الخطاب من المناخ المساعد له، لكان ذلك سبيلا للعلاج، فقد كنت في زيارة لبعض المناطق السياحية في تركيا، بعيدا عن إسطنبول بحوالي ألف كيلومتر، وما لاحظته أنها مناطق أشبه بالصعيد المصري، ولكنها ساحلية، لم ألحظ فيها أي مظهر -والحمد لله- للعنصرية، أو للصورة السيئة عن العرب، رغم أن المنطقة حين تراها لأول وهلة ترى العرب فيها كثرة كاثرة، وحين تصعد إلى المناطق الجبلية السياحية فيها، تجد الوجود الخليجي بشكل ملحوظ، والعمالة السورية في كل مكان.

وفي ليلة خرجت لأبحث عن دواء، وعادة الصيدليات التركية أنها تغلق بعد الساعة السابعة، وتوجد بعض الصيدليات المناوبة، ذهبت إلى إحداها، ولم أصل، لاحظ شابان تركيان أني أبحث عن شيء، فتطوعا بسؤالي عما أبحث عنه، فأخبرتهما، ولهجتي التركية بسيطة، فهموا أني عربي، ولم يكتفيا بالدلالة على المكان، بل اصطحباني إليه، لأني لن أصل بسهولة، بعد أن قام أحدهما بالاتصال بصديق يصف له المكان، وودعاني بابتسامة دلت على سماحة أهل المكان، وهو ما رأيته طوال الرحلة، ورآه آخرون، ولذا يكثر ذهاب العرب إلى هذه المناطق.

الحقيقة أن المسؤولية تتجه بالأساس إلى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وللحزب الحاكم والسلطة، فكما قضى أردوغان على الأثر السياسي لهذا الخطاب بالفوز في الانتخابات، ينبغي أن يقضي على الأثر الاجتماعي أيضا، فالعبء الأكبر يقع على عاتقه، ولا يكفي هنا أن يكون العلاج بكلمات يوجهها إلى الشعب، فهو كلام جيد، لكنه ليس كافيا، لأن الأمر لم يعد مواقف فردية، بل إنه تحول إلى سعار مجنون، سيصيب المجتمع التركي نفسه، فالمجتمعات التي تألف أعينها مثل هذه المشاهد، يغرس فيها بشكل غير مباشر الداء نفسه، وهو ما رأيناه في جرائم في نفس المناطق بين الأتراك أنفسهم، وصلت إلى حد القتل في عائلتين بمنطقة (إيسنيورت) في إسطنبول.

ثم إن خطورة الموقف لن تقف عند تأثر السياحة، وهو ما بدأ يشكو منه الأتراك أنفسهم، وما بدأ يعانيه البعض من بعض المواقف التي تتسم بالحدة الزائدة عن اللزوم، في معاملة الأتراك لبعضهم، ولذا ينبغي أن يكون هناك موقف حازم وقرار من السلطة، ضد مثل هذه الإجراءات، وإلا فستكون عواقب الأمر غير محمودة على مستويات عدة.

ولا يكفي العلاج القانوني للأمر، رغم أهميته، فلا بد من حملات منظمة يقوم بها الحزب الحاكم والسلطة، وأدواتهم الإعلامية والثقافية والدينية، لرفض مثل هذا السلوك، سواء مع العرب أو غيرهم، لأنه سلوك يضر ولا يفيد، سواء تركيا الدولة أو الشعب، وتبصير الأتراك بأن العرب أقرب إليهم من أي جنس آخر؛ ففي كل أزمات تركيا الأخيرة كانوا هم الأقرب إليها، وقد رأينا آخر رحلة لأردوغان بغرض عقد صفات تجارية تقلل من التضخم، وتزيد من الاستثمارات لبلاده، كانت إلى ثلاث دول عربية مهمة، هي: السعودية، وقطر، والإمارات.

المهمة إذن ثقيلة، ولكن التدخل فيها لا بد من الإسراع به، والتحرك فيه على عدة مستويات، ولن يكون العلاج بكلمات طيبة تلقى في الإعلام، لأن الناس تحتاج إلى قوة القانون، وإلى القوة الناعمة معًا، من خلال الإعلام والفنون، والوسائل الأخرى المهمة، ليكتمل بها علاج هذا الداء الوبيل.

عن الكاتب

د. عصام تليمة

من علماء الأزهر، حاصل على الدكتوراه في الفقه المقارن


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس