جلال الدغيم - خاص ترك برس

كيف قتل الاستبداد رغبة العمل السياسي في نفوس السوريين والتي تحولت بدورها إلى فوبيا؟ وما تداعيات تلك المعضلة على المستقبل السوري؟ وطرق حلها؟ وماهي ملامح الحياة السياسية بعد الثورة؟   

طوال أكثر من نصف قرن زرع النظام الأمني، بحكم السوط والمنفى، روادع معنوية ونفسية في نفوس السوريين وعمل على ترسيخ الفوبيا من السياسة أو الرهاب السياسي، للأفراد والجماعات، وهو ما ذاق طعمه من عاش زمن الأب وورثه من عاصر زمن الابن، حيث باتت السياسة أو الانخراط في الحياة السياسية أو المشاركة فيها، ينعدم بشكل تام أو ووفق ما حددته برامج الحزب الواحد، إذ ظلت تترا ود تلك الجمل في الأذهان وعلى الأفواه كـ (الحيطان لها آذان)، كان ذلك بفعل السياسات والممارسات القهرية التي انتهجها الطغيان، وما رافقها من أحكام حدت من دواعي رغبة الالتحاق في العمل السياسي و أقصت المشاركة في الحياة السياسية، و تحجيم الفكر السياسي، وقصّرت بدورها الأنظار على المطالب الحياتية من مأكل وملبس ومشرب، دون غيرها، والابتعاد عن كل العلاقات ذات الصلة بالشأن السياسي.

ومما لا شك فيه أنّ جذر مشكلة نظام الأسد مع السياسة، يتصل بطبيعة النظام بوصفه نظامًا ديكتاتوريًا بوليسيًا، وبسبب طبيعته، فإنه حافظ على ما اتخذه "البعث"، الذي كان حافظ الأسد أحد أركانه عقب انقلابه في آذار 1963، من إجراءات غايتها تدمير البيئة السياسية ومحاربة الفكر والتنظيمات والشخصيات السياسية، وتغييب الإعلام، وقد أضاف إلى ما سبق، أن وضع الجماعات السياسية في سوريا أمام واحد من خيارين، إما الانصياع للنظام ودخول حظيرته، أو الملاحقة التي تضع التنظيمات أمام الاعتقال الذي يمكن أن يصل حد الموت، كما العمل على تدجين أي مبادرة أهلية شبابية أو طلابية أو نسائية أو نقابية وبرمجتها داخل منظومته العقائدية لتسير وفق توجهاته، بعيدا عن الاجتهاد الفكري والنقاشات السياسية والمواقف المغايرة لمصلحته.

تلك الممارسات القمعية العلنية رسخت في نفوس الأفراد قبل الجماعات للصغار والكبار، مفاهيم عدة كحرمانيّة وجريمة العمل السياسي وخطورته، وكان لهذا التحريم أو "التجريم السياسي" أثره البالغ، طويل الأمد، ليس في انكفاء السوري عن ممارسة السياسة فحسب، بل في تعزيز التشوّهات الفكرية والنفسية لمفهوم السياسة في اللاوعي الجمعي أيضًا، وقد ظلت السياسية تعتبر في أذهان السوريين من الأماني صعبة المنال، وكان لاستمرارية النهج القمعي دورا أساسياً في جعلها من الثانويات اللامكان لها في الفكر السوري عند الغالبية، أي هي آخر ما يفكر بها أي فرد يعيش تحت خيمة الأجهزة التسلطية، وظلال نظام البعث.

وهذا الاحتكار والاستئثار السلطوي كان من شأنه أن عزز لهم الأتباع، ووسع من دائرة تأثيرهم، وضمن امتداد حكمهم وحصانته، وبنفس الوقت قلص من حدود وحجم غيرهم من طلاب الديمقراطية والعدالة في الانتقال والتداول السلمي للسلطة، وأسهم ذلك في عقر فاعلية الغير أو حتى في أن يفكروا في الاندماج أو المشاركة السياسية.

وكان لتكريس غياب الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وتقييد الفكر، واعتقال الألسن، واستلاب الرأي، وقمع المعارضة، وإجهاض التعددية، وكبت الحريات، مساهمة في زعزعة الاستقرار السياسي وإلزام الشعب في اعتناق فكر السلطة القائمة قهراً وجبراً فكرا وسلوكاً، وقد ولد إثر ذلك التراكمات وكانت تلك التراكمات من المسببات الكبرى في قيام ثورة الكرامة.

إن الحديث عن الحياة السياسية وقتلها في ظل البيت الأسدي الاستبدادي والنظام البعثي هو مما لا يثير المسامع إذ أنها ذبحت ظاهرا وباطناً، وأحل ذلك عرفاً وقانوناً، عرفه الجميع ورهبه، فلا يختلف عليه اثنان، وإن مما يثير الدهشة والتعجب هو وجود أناس تهتم أو تمتهن العمل السياسي المستقل اللا مقيد أو المجند في ضائقة الأجهزة الأمنية التسلطية .  

ملامح التغيرات وتجليات التطورات في الثقافة السياسية ما بعد الثورة:

منذ اندلاع ثورة الحرية باتت التغيرات تطفو على السطح والتي رفعت من فعاليات السوريين ونشاطاتهم السياسية، وعرف السوريون للمرة الأولى معنى السياسة والحياة السياسية والانتماء التنظيمي، وبدت مصطلحات جديدة تدخل إلى حياتهم كالتنسيقيات والأحزاب والجماعات  والتجمعات والاتحادات، إذ كانت الفرصة متاحة ومواتية للانهماك في المجال السياسي، حيث يندر أن يمرّ شهر دون أن تتداعى مجموعات من السوريين في الداخل والخارج من أجل مؤتمر أو اجتماع أو لقاء له أهداف سياسية، من بينها تشكيل جماعة أو حزب سياسي، أو إقامة تحالف، يضم جماعات وشخصيات سياسية واجتماعية، أو للبحث في موضوعات سياسية عامة تهم السوريين أو بعضًا من جوانب قضيّتهم وعلاقاتها المتعددة الأبعاد، كما أنها صارت حديث  الشارع الثوري، فلا تجد شخصاً مهما كان سنه أو فئته أو مستواه التعليمي، إلا ويفتيك في المسائل السياسية وحتى الجدلية، أي أن الإقبال الذي ارتفق معه الاشتياق والرغبة في الدخول على الحياة السياسية كان لامحدود بفعل التصحر الذي عانى منه الشعب وحرم منه على مر عقود.

وعلى الرغم من ذلك ومع مرور أكثر من عقد على القيام ضد النظام المحتكر، إلا أن السياسية لم تمارس على أكمل وجه فعلي، وغالبا تمت من قبل المعارضة سواء الحزبية أو الائتلافية أو غيرها من المهتمين في الشأن السياسي والمشاركة، في حين اقتصر البعض الآخر على ترتيب أوضاعهم وتبويب أولوياتهم وكان هناك إحجام من قبلهم في الخوض في العمل السياسي وهذا بفعل ما ولده الاستبداد في العقليات والسلوك، إضافة إلى الظروف العصيبة التي انبثقت عن الحرب.

 إن غياب الحياة السياسية، مشكلة لمستقبل سوريا السياسي، فهو مؤشراً على استمرار التقليدية في العمل السياسي، وهذا المؤشر يعني أن هناك آثارًا سلبية مستقبلية على قضايا التنمية السياسية، وهذه المشكلة أو المعضلة لا يمكن التغاضي عنها أو تفاديها باللامبالاة أو جعلها منخفضة القيمة، وإنما تحتاج إلى جهد استراتيجي تعاوني تكاملي تبادلي، ووقت لا بأس به في إعادة هيكلة القيم والمفاهيم السياسية وترسيخها عن طريق تنشئة سياسية سليمة وتربية عملية متكاملة، من شأنها أن تحدث ذاك التغير الجذري للفرد والمجتمع، وتغيير نظرته نحو العمل السياسي، وتدعيم ثقافته من ناحية الحياة السياسية، ورفع الوعي حول أهمية المشاركة الإيجابية والدخول في  عملية رسم السياسات وصنع القرار.

عن الكاتب

جلال الدغيم

باحث في العلوم السياسية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس