د. سمير صالحة - 

إذا ما كانت تركيا بلد المفاجآت، فالناخب التركي أثبت مع إعلان نتائج الانتخابات المحلّية في البلاد أنّه هو بطل صناعة المفاجآت هذه المرّة. أقلّ ما يمكن قوله حول ما أفرزته الصناديق هو أنّها أخرجت موجة العمق إلى السطح وحوّلتها لتسونامي سياسي وحزبي عاصف غير معروف النتائج والاحتمالات بعد.

وصفت قيادات حزب “الشعب الجمهوري” المعارض نتائج الانتخابات المحلّية التركية بالفوز الساحق. بالمقابل أعلن حزب “العدالة والتنمية” أنّه تسلّم رسالة الناخب وقواعد الحزب التي اعتكفت في منزلها ولم تذهب إلى الصناديق بنسبة 10 في المئة، رافضاً قبول توصيف ما جرى بأنّه هزيمة له أو لتحالف الجمهور.

الصناديق التي قالت “نعم” للرئيس التركي رجب طيب إردوغان قبل 10 أشهر في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، تقول له “لا” في انتخابات البلديّات التي جرت يوم الأحد المنصرم. ملخّص ما جرى خلال أقلّ من عام من كرّ وفرّ أمام الصناديق هو نجاح الناخب التركي في إلزام قيادات الحكم والمعارضة بمراجعة سياساتهما والبحث عن سبل التنسيق والتعاون في هذه الظروف الاقتصادية والمعيشية الصعبة التي تمرّ بها البلاد. منح إردوغان وحزبه أوّلاً ما أرادا من انتصار في شهر أيار المنصرم. ثمّ استكمل خطوته بمنح حزب “الشعب الجمهوري” فرصة موازنة القوى والجلوس إلى طاولة صناعة السياسات واتّخاذ القرارات.

نجح حزب العدالة والتنمية في سياسته الخارجية وتبنّي قرار مراجعة المواقف والعلاقات مع دول المنطقة. في حين لم يطبّق الخطط نفسها باتجاه الداخل أيضاً لإرضاء المواطن وإعطائه ما يريد في مواجهة الأزمات الاقتصادية والمعيشية والاجتماعية. لم يفعل ذلك، وها هو يدفع ثمن ما أفرزته صناديق الانتخابات المحلّية قبل أيام.

ماذا تريد المعارضة من إردوغان؟

كيف سيتحرّك حزب الشعب في الأيام المقبلة؟ وما الذي يريده من حزب العدالة؟ الاكتفاء بدعوته إلى تبديل سياساته وخططه الاقتصادية والمعيشية أم التحريك السريع لسيناريو الانتخابات المبكرة التي قال إردوغان عنها في خطاب الشرفة إنّها مستبعدة وإنّ الحزب باقٍ في الحكم حتى عام 2028؟

كان قرار الناخب التركي مفاجئاً وصادماً للحكم والمعارضة على السواء. لم يكن تحالف الجمهور الداعم لحزب العدالة يتوقّع هزيمة بهذا الشكل. الاحتمال الأكبر بين السيناريوهات السوداوية هو الفشل في استرداد أنقرة وإسطنبول من المعارضة. لكنّ الصناديق قالت أكثر من ذلك حول ضرورة عدم تبسيط الأمور وتقديمها على أنّها حالة ظرفية مؤقّتة سيتحرّك الحزب الحاكم لمعالجتها وامتصاص غضب الكثير من الشرائح الاجتماعية.

ليست مشكلة حزب العدالة والتنمية في عدم استرداده لمدينتَي أنقرة وإسطنبول من يد حزب الشعب الجمهوري. بل في خارطة نتائج انتخابات محلّية نجحت المعارضة في رسم ألوانها. لم يفشل “العدالة والتنمية” في استرداد أنقرة وإسطنبول وحسب بل خسر الكثير من المدن والأقضية التي كانت محسوبة عليه لسنوات طويلة. مجلس بلدية إسطنبول الذي كان بيد تحالف الجمهور الحاكم سينتقل إلى يد المعارضة. وهذا يعني أنّ أكرم إمام أوغلو سيكون أقوى في اتّخاذ القرارات، وربّما ترك مقعده استعداداً لأيّة انتخابات مبكرة دون أن يتنازل عن رئاسة بلدية إسطنبول لحزب العدالة والتنمية.

حزب الشعب الجمهوري أيضاً عليه أن لا يرى في ما حصل إنجازاً من صناعته، فهناك خلط أوراق كثيرة ساهم في إيصاله إلى ما يريد. فللناخب التركي الداعم لبقيّة أحزاب المعارضة وحتى لحزبي العدالة والحركة القومية حصّة في الأرقام التي حصل عليها حزب الشعب الجمهوري. وهذا ما سارعت قيادات حزب الشعوب إلى تذكير أكرم إمام أوغلو به: “لا تنسَ حصّتنا في أرقامك ونسبة أصواتك”، كما قالت القياديّة في الحزب ميرال دانش بيشطاش.

الناخب التركي في صفوف الحكم والمعارضة هو الذي توحّد على الرغم من الأحزاب والقيادات السياسية، وقال ما عنده للجانبين على السواء. الصدمة هي خروج الناخب عن قرارات وتوصيات القيادات الحزبية التي ينتمي إليها وتوحّده أمام الصناديق لتوجيه أكثر من رسالة ذات شقّ سياسي واجتماعي ومعيشي. تمرّد الناخب التركي على قياداته وخذلها ليس من أجل تسهيل فوز الشعب الجمهوري. بل من أجل تمرير بطاقته الصفراء في وجه حزب العدالة كي يصغي إلى ما يريد ويقول.

ربّما المنتصر هو حزب الشعب، لكنّ الذي وفّر له ذلك هو خليط من الأصوات في الحكم والمعارضة على السواء. فهل ينجح في حماية ما حصل عليه ويترجمه على الأرض أم يفرّط به سريعاً أمام خطوات حزب العدالة التي ستكون سريعة وفي العمق للالتفاف على ما جرى؟

ليست المرّة الأولى

هي ليست الظاهرة الأولى من نوعها في التاريخ السياسي التركي المعاصر. سبق أن شهدت البلاد حالة مشابهة في عام 1983 مع ولادة حزب الوطن الأمّ ورمزه تورغوت أوزال الذي رأى التيّارات الفكرية والعقائدية من اليمين إلى اليسار تقف خلفه كردّة فعل على الانقلاب العسكري في عام 1980 وإعلان دستور كنعان إفرين عام 1982. ثمّ تكرّر المشهد عام 1998 مع حزب الشعب الاجتماعي اليساريّ بقيادة إردال إينونو ومراد قره يلشن في مواجهة الوطن الأمّ نفسه.

انتخابات البلديّات هي لاختيار من سيقود برامج ومشاريع خدمات البنى التحتية في المدن وتنظيم حركة السير والمواصلات وزيادة عدد الحدائق العامّة والمنتزهات، لكنّها تتحوّل مرّة أخرى إلى انتخابات مصيرية بالنسبة للبعض ومعارك حزبية وسياسية طاحنة، خصوصاً في أنقرة وإسطنبول. اللافت أكثر هو أرقام استطلاعات الرأي التي تلتقي في غالبيّتها عند عامل الأوضاع الاقتصادية والمعيشية وأرقام التضخّم والغلاء في تحديد خيارات الناخب وتوجّهاته.يستر

كان الرئيس التركي رجب طيب إردوغان يتطلّع صوب ترسيخ زعامته وتوجيه ضربة قاصمة للمعارضة بحرمانها ما بقي بيدها من أوراق في بلديّات بعض المدن التركية. فجاءه الردّ من الناخب التركي الذي منح حزب الشعب المزيد من الدعم في نسب الأصوات والسيطرة على المزيد من بلديّات مدن تركية محسوبة تاريخياً على حزب العدالة والتنمية. عاديّ جداً أن تحظى مدينة إسطنبول بكلّ هذا الاهتمام، فنحن نتحدّث عن مدينة يسكنها نحو 16 مليون نسمة، وفيها خُمس الخزّان الانتخابي في البلاد. وتتخطّى ميزانيّتها ميزانية 5 وزارات وتعتبر مركز الثقل التجاري والسياحي في البلاد.

الرابح الأوّل هو حزب “الشعب الجمهوري” المعارض الذي كان عليه أن يجترح المعجزات في مواجهة تحالف الجمهور للاحتفاظ برئاسة بلديّات المدن التركية الكبرى الثلاث، فمنحه الناخب التركي أكثر بكثير ممّا كان يحلم ويريد.  كذلك الرابح هو رئيس حزب الشعب الجديد أوزغور أوزال الذي نجح في إبعاد كمال كيليشدار أوغلو قبل أشهر عن الرئاسة ووجد نفسه في قلب مغامرة الانتخابات التي كان سيدفع باكراً ثمن الهزيمة.

الرابح الثاني بعد حزب الشعب هو حزب فاتح إربكان “الرفاه من جديد” الذي تحوّل إلى مفاجأة الانتخابات بعدما زاد من شعبيّته إلى حوالي 6 في المئة من مجموع الأصوات. وحصد حوالي 70 مدينة وقضاء وبلدة متقدّماً على الكثير من أحزاب الحكم والمعارضة كبديل يبحث عن فرص على طريق عام 2028.

رابح آخر على الرغم من تراجع أصواته هو حزب “الشعوب والديمقراطية” الذي يحظى بدعم صوت الناخب الكردي في جنوب شرق تركيا، والذي جيّر جزءاً من أصواته لإمام أوغلو.

ميرال أكشينار وحزبها “إيي” بارتي في طليعة الخاسرين بين أحزاب المعارضة، فنسب أصواته تراجعت من حوالي 10 في المئة إلى 3 في المئة. ولذلك جاءت رسالة رئيسة الحزب مبكرة جداً حول أنّها ستفعل اللازم.

المنهزم الآخر في الانتخابات هي الأحزاب الصغيرة المحسوبة على المعارضة التي يقودها أحمد داوود أوغلو وعلي باباجان والتي أرادت أن تختبر نفوذها من خلال دخول الانتخابات منفردة فوجدت نفسها خارج اللعبة الحزبية والسياسية في البلاد.

المنهزم الثالث هو حزب الحركة القومية وزعيمه دولت بهشلي الذي اختار التنسيق مع حزب العدالة في مكان ودخول الانتخابات مستقلّاً في مكان آخر، فوجد نسبة أصواته تتراجع إلى وراء حزب الرفاه.

كان السؤال قبل 10 أشهر يتمحور حول فشل المعارضة الذريع في الانتخابات البرلمانية والرئاسية في مواجهة إردوغان وحزبه. فعلى ماذا يراهن حزب الشعب الذي يخوض الانتخابات منفرداً للاحتفاظ ببلديّتي أنقرة وإسطنبول؟ ويأتي جوابٌ هو عبارة عن قناعة الكثيرين بأنّ إمام أوغلو بعد هذا الانتصار سيشعر أنّ أبواب معركة الرئاسة بعد 4 أعوام باتت مشرّعة أمامه.

من يرتكب الأقلّ من الأخطاء بعد الآن هو الذي سيبقى في المشهد السياسي والحزبي في البلاد.

عن الكاتب

د. سمير صالحة

البرفسور الدكتور سمير صالحة هو أكاديمي تركي والعميد المؤسس لكلية القانون في جامعة غازي عنتاب وأستاذ مادتي القانون الدولي العام والعلاقات الدولية في جامعة كوجالي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس