د.مصطفى حامد أوغلو  - خاص ترك برس

محظوظة هي تلك الدول التي تمتلك خامات ورجال دولة، تستطيع أن تكون هذه القامات صمام أمان، وسدًا منيعًا أمام عواصف قد تقتلع كثير مما بناه أبناء تلك الأمة في سنين طويلة. ولقد وهب الله لكل إنسان طبيعة وتركيبة نفسية  خاصة ومختلفة عن الآخر، وقد يكون هذا التنافر والاختلاف هي منحة لكثير من البيوت والأسر والمنظمات والأحزاب والحركات والدول، في حال كانت مكونات تلك الهيئات والأسر والمنظمات قادرة على الاستفادة من هذه الصفات المتكاملة، والتي قد تبدو متنافرة في ظاهرها، لكنها تكون ضرورية لتوازن الحركات والقرارات والسياسيات على كل المستويات. والخيبة والخسران في حال عجزها عن ذلك.

كثيرة تلك هي الأمثلة على هذه الظاهرة والحكمة بالاستفادة منها على مر التاريخ والحركات والأحزاب، فكل ميسر لما خلق له.

غُل وأردوغان هما أيضًا يشكلان مثالًا واضحًا على هذه الثنائية التي توافقت حينًا واختلفت حينًا آخر، لكنها حافظت على مستوى جيد، يليق بطرفي المعادلة حتى يومنا هذا، واستطاع هذا الثنائي المختلف المتفق على قيادة تركيا ونهضتها الحديثة. لكن الأيام القادمة قد تبدي غير ما اعتدناه، في حال تغيرت الظروف، وعلى ضوء نتائج انتخابات الأول من تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، التي وصفها رئيس الجمهورية أردوغان بأنها ستكون بداية استقرار تركيا من عدمه.

رغم هدوء طبيعته، وبساطة حديثه، وسهولة كلماته، لكن غُل هو الشخصية الوحيدة التي تجرأت على خوض الانتخابات الحزبية ضد مؤسس الحركة الإسلامية بتركيا، وزعيمها الروحي نجم الدين أربكان، هذا التحدي الذي يعتبر في قواميس الحركات الإسلامية خروجًا عن الولاء والطاعة، وخيانة لمبدأ والقيادة، يترتب عليه كثير من الحدود والعقوبات. وهذا ما حصل مع غُل ورفاقه في بداية تشكيلهم للعدالة والتنمية.

عشية تشكيل اللوائح الانتخابية وبعد مؤتمر العدالة والتنمية الخامس واختيار القيادة الجديدة للحزب وخلوها من كثير من الأشخاص المحسوبين على الرئيس السابق عبدالله غُل، وفي ظل التكهنات على استبعاد البقية في الترشيح للانتخابات، خرج غُل على محطة التلفاز ليقول الشيء الكثير وكأنه لم يقل شيئًا لمن لا يتابع حديثه وكلماته المتناثرة هنا وهناك كعادة الدبلوماسيين المخضرمين، الذين يقولون كل ما يريدون، بشكل غير مباشر من خلال حديث مطول أو مقتضب.

فماذا أراد غُل أن يقول في هذا اللقاء وهذا التوقيت...؟

تابعت حديث جول بكل انتباه وكل كلمة وقرأت لقاءه كاملًا أكثر من مرة.

كثيرة هي الرسائل التي أراد أن تصل لكثير من الناس وربما في مقدمة هؤلاء هو الناخب التركي وقيادة الحزب الذي كان هو من مؤسسيه الثلاثة، وهو يجد نفسه اليوم  بعيدًا عنه، أو مبعدًا عنه، ويحمل عتبًا واضحا على هذه التصرفات. وربما تكون هذه هي أولى الإشارات المرسلة...

في حديثه المطول لفت انتباهي تكرار كلمة عشر سنين وليس ثلاثة عشر سنة من حكم العدالة والتنمية، وجاء رده على سبب هذا الاختصار، فأوضح أن ما تعيشه تركيا في السنيين الأخيرة هو نوع من عدم الاستقرار والحالة الاستثنائية والابتعاد عن فلسفة العدالة والتنمية، وأن تركيا بهذه النسبة من النمو الاقتصادي لن تصل ما تربو له من مكانة مؤثرة ودولة إقليمية لها كلمتها بما يدور حولها من أحداث. وهذه هي الرسالة الثانية.

غُل لا يريد استمرار حالة التوتر والقطبية في السياسة التركية على عكس ما ينتهجه رئيس الجمهورية أردوغان، لأنه يخشى من انتقال هذا الاصطفاف والتخندق للإعلام والصحافة والكتاب وحملة الأقلام مما يبعدها عن المهنية والحيادية وتخرج من كونها صحافة وإعلام، ويتخوف من انقسام المجتمع التركي بأكمله بين هذه القطبية. وهذا ما تعيشه تركيا حاليًا. وهذه هي الرسالة الثالثة.

السياسة الخارجية هي محل اهتمام عبدالله غُل وهو الذي خبرها أكثر من غيره، ورغم تأكيده على أطماع الكثيرين بالمنطقة والمحاولات لتأييد الإرهاب في دول الجوار بعد كسر العمود الفقري لكلتا الجارتين سوريا والعراق، يعود ليطالب بالدور الناعم للسياسة التركية في التعامل وخاصة مع دول الشرق الأوسط، التي يشعر بالإحباط من دور تلك الدول  تجاه الأحداث الدامية وخاصة في سورية. يقول غُل أن هذه الدول تصيبها حساسية تجاه أي تدخل بشؤونها الداخلية، وتستعيد ذكريات الماضي السلبية تجاه تركيا، مما يفقد تركيا دورها الأساسي  والمؤثر، في خضم تفرد روسيا وإيران في إدارة الأزمة الحالية. وعدم وجود دول تقف أمام هاتين الدولتين. وهذه هي الرسالة الرابعة.

الرسالة الخامسة كانت واضحة للعدالة والتنمية بأن الأخطاء التي ارتكبت خلال الانتخابات الماضية يجب تلافيها لكي يحقق العدالة والتنمية الفوز في الانتخابات المقبلة حيث تقاطع قدر تركيا مع قدر العدالة والتنمية في هذه الانتخابات.

الأخطاء حصرها جول في الأسماء واللغة والسياسة. اختيار الأسماء الصحيحة، واختيار لغة الهدوء والابتعاد عن التوتر والتأزم، السياسة الصحيحة من خلال الالتزام بالقانون والشفافية.

وربما هذه التصريحات كان من أول نتائجها إعادة ترشيح بعض الأسماء وعلى رأسها علي باباجان قائد النجاح الاقتصادي مع وزير المالية محمد جيجك الذين لم يكونا ضمن قائمة قيادة الحزب الجيدة، التي فسرها الكثيرين على أنها بداية التخلي عنهما.

غُل هو أول رئيس وزراء في حكم العدالة والتنمية، وأول رئيس للجمهورية التركية بفضل أصوات حزب العدالة والتنمية أيضًا. عودته للحزب لم تكن بالأمر السهل، ولم تكن لتمر بدون آلام وخاض، في ظل سعي رئيس الجمهورية طيب أردوغان ومحاولة الانتقال بالبلاد لحكم رئاسي جديد.

لكن التخلي عن غُل، وإضعاف دوره بالحزب، أيضا له مخاضه وآلامه وسلبياته.

غُل وقد وصل لأعلى المراتب السياسية والقيادية بتركيا، ولم يعد له طموح سياسي، سوى خدمة البلاد والشعب كما يقول. يعطي إشارة واضحة بأنه يتمنى النجاح للعدالة والتنمية، ولكنه جاهز وحاضر لأي مهمة جديدة تحتاج تركيا لخبراته وخدماته وقيادته من جديد. وربما هذه هي الرسالة الأقوى والأهم في كل هذه المقابلة المثيرة بكل تفاصيلها.

نجاح العدالة والتنمية في الانتخابات القادمة سيعيد القوة للحزب والالتفاف حول قيادته ومتابعة مسيرته ونجاحاته. وسيكون جول من أكثر الناس سعادة بهذا الاستقرار، فهو ليس ممن ينتظر الفشل حتى يصطاد بالماء العكر. وهذا شيء جميل يحسب لتركيا وديمقراطيتها.

الجميل أيضا أن هناك بديلا جديدا لتركيا، في حال جرت الرياح بما لا تشتهي السفن ولم يحقق العدالة ما يطمح له. فهناك من هو مستعدا لحمل الراية من جديد ومتابعة مسيرة الاستقرار والنجاح.

لكن ربما هذه المرة تحت أسم جديد وحزب جديد ومظلة جديدة كما اعتادت تركيا عليه في السنيين الماضية.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس