أنور عبد الله الرواحنة - ترك برس

لا زال الدور التركي الفاعل والمتصاعد في الأعوام القليلة الماضية، بالتحديد منذ عام 2002، "يثير قلق" الكثير من الأطراف الإقليمية والدولية "المتضررة" (بالأخص بعد موقفها الداعم لـ "ثورات الربيع العربي"، بما فيها "الثورة السورية") وهو الأمر الذي من أجله "سعت وتسعى وستسعى" تلك الأطراف الإقليمية والدولية "جاهدة" لإعادة تركيا إلى ما قبل عام 2002، أي إلى "الدور المذعن أو التابع"، أو على أقل تقدير لإعادتها إلى ما قبل إنطلاق "ثورات الربيع العربي".

بالرغم من اعتقاد الكثير ان "تآمر" الأطراف الأقليمية والدولية على تركيا قد انتهى بسقوط "الخلافة العثمانية"، فإنه على يبدو مؤشر على استمرار "مسلسل التآمر" لا زال مستمرًا، وسيستمر، لإسقاط أو إخضاع الدولة التركية الحديثة لتفتيت ما تبقى من "الدولة التركية القديمة" أو "الخلافة العثمانية".

الملفت للنظر هنا، أنه كلما حاولت تركيا (الحديثة) "الاستقلال بقرارها السياسي والاقتصادي" أو "العودة إلى هويتها الثقافية والحضارية" أو "الانفتاح على محيطها الجغرافي" أو "دمقرطة مؤسسات الدولة الرسمية والشعبية" يلاحظ ظهور لبعض "الأحداث" و"الأعمال الإرهابية" تهدف إلى "استنزاف" طاقات الدولة التركية، سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا واستخباريًا وعسكريًا.

لم يكن "استنزاف" طاقات الدولة التركية بواسطة بعض "الأحداث" في العقود الماضية من قبيل "الصدفة"، التي منها على سبيل المثال، هيمنة الجيش على الدولة والانقلابات العسكرية، واستبداد العلمانية الأتاتوركية، وهيمنة "لون واحد" على القضاء، وحل الأحزاب السياسية ذات الهوية الإسلامية.

إضافة إلى ذلك استمرار أطراف إقليمية ودولية بـ"تحريض" بعض الأتراك ذوي الهوية الكردية والانتماءات اليسارية والعلمانية والليبرالية من "ذوي النزعة الإرهابية" على "استنزاف" الدولة التركية، من خلال، على سبيل المثال، تحريضهم على رفض "مبادرات السلام" لنبذ الإرهاب والخروج على دولة الدستور والقوانين وعدم الانخراط في نشاطات المجتمع المدني التركية لا بل دعمهم على شن "الأعمال الإرهابية" داخل تركيا كلما اتجهت الدولة التركية إلى الصعود كقوة إقليمية فاعلة والإتجاه إلى الدمقرطة، أو الانتخابات النيابية والبلدية، أو كلما انتشر السلم المجتمعي بين الأطياف المختلفة للشعب التركي.

من هي الأطراف التي تستهدف تركيا..؟

بعيدًا عن التفصيلات، يمكن تصنيف هذه الأطراف الإقليمية والدولية التي "تحرض" على تركيا ضمن "تحالفين" (وفقًا لتصنيفي الشخصي):

أولًا، "تحالف احتواء تركيا" أطرافه الرئيسة هم حلفاء تركيا الغربيين بشكل عام (الولايات المتحدة، الاتحاد الأوروبي و"حلف الناتو")، بالإضافة إلى روسيا. هدف هذا التحالف الرغبة في وجود تركيا قوية "نسبيًا" ولكن تابعة أو خاضعة له سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا بما يخدم مصالحه القومية العليا في المقام الأول ثم مصالح تركيا القومية العليا التي تتقاطع ومصالحه (كموقف دولة المانيا من قضية اللجوء مؤخرًا، وموقف الولايات المتحدة و"حلف الناتو" من قضية الدفاع عن تركيا ضد الصواريخ النظام السوري الموجهة إلى أراضيه في فترة سابقة، وزيادة الاهتمام الغربي (النسبي) بتركيا بعد التدخل العسكري الروسي في سوريا. وعليه، تتسم مواقف هذا التجالف بالتقلب النسبي بحيث تزداد "حدة" احتواء هذا التحالف لتركيا "طرديًا"، أي كلما زادت قوة تركيا وتأثيرها سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا على المستويين الإقليمي والدولي زاد هذا التحالف التهديد أو الضغط على تركيا، والعكس صحيح ، بحيث تخضع طبيعة العلاقة التي تجمعهم مع تركيا بما أسميه "علاقة الإخوة المتباغضين".

ثانيًا، "تحالف إسقاط تركيا" أطرافه الرئيسية دول أقليمية (كإيران والعراق والإمارات ومصر والأردن وإسرائيل وأغلب القوى العلمانية واليسارية والليبرالية العربية). هدف هذا التحالف الرئيس "إسقاط" تركيا وتفتيتها إلى دويلات وقوميات وطوائف، وهذا الهدف قد لا يكون في هذه المرحلة لكن لا يمكن إسقاطه مستقبلاً من الأجندة السياسية، بحيث تخضع طبيعة العلاقة التي تجمعهم مع تركيا بما أسميه "علاقة الأخوة المتحاربين".

الملفت للنظر هنا تزايد "استنزاف" طاقات الدولة التركية من قبل بعض أطراف "الحلفين" أعلاه في الأشهر القليلة الماضية بـ"أحداث مفتعلة" وتجدد "الأعمال الإرهابية"، بالتحديد بعد تشكل تحالف تركي-سعودي-قطري جديد المؤيد من بعض حركات "الإسلام السياسي المعتدلة" الفاعلة (كجماعة الإخوان المسلمين)، لا سيما ان تلك "الأحداث" و"الأعمال الإرهابية" زادت وتيرتها قبيل الانتخابات البرلمانية التي، غالبًا، تستهدف منع إستقرار تركيا داخليًا وبالتالي منعها من لعب دور فاعل على المستوى الخارجي، خاصة في النزاع السوري.

ماذا بعد..؟

إلى حد ما، يمكن القول إن مصالح الحلفين قد تلتقي مستقبليًا في نقطة ما ضد مصالح تركيا "العليا" (كمواقف ألمانيا وبلجيكا مؤخرًا من حزب العمال الكردستاني، أو التقاء مصالح روسيا مع إيران في حالة تطبيق تركيا "النموذج الباكستاني"). هذا الأمر من شأنه تعقيد الدور التركي وفاعليته، لا بل قد يهدد استقرارها، الذي يتطلب من تركيا "تحديث" آلية واستراتيجية إدارة النزاع بطريقة متروية تعيد قراءة المشهد من جديد بـ "أبعاده الثلاثية" بطريقة "برغماتية بحتة"، وبالتالي قد يجعل من تركيا على الأرجح "بيضة القبان"، كما ذكرت في مقالة سابقة، تدفع أطراف الحلفين على التنافس لكسب ودها ورضاها.

في المقابل، في حالة إذا ما تم الطلب من تركيا ان تقوم بدور أكثر فاعلية في سوريا على غرار "النموذج الباكستاني" في أفغانستان فهنا "يجب" عليها التأكد من إحتمالات "نموذج الرغبة والقدرة" في التغيير، أي ان تسأل نفسها مبدئيًا أربعة أسئلة لا خامس لهم، وهي:

أولًا، هل هي "راغبة" و "قادرة" على أداء هذا الدور..؟

ثانيًا، هل هي "قادرة" على أداء هذا الدور ولكنها "لا ترغب" في أدائه..؟

ثالثًا، هل هي "غير راغبة" في أداء هذا الدور و"غير قادرة" عليه أيضًا..؟

رابعًا، هل هي "راغبة" في أداء هذا الدور ولكنها "غير قادرة" عليه..؟

إضافة الى ذلك، إذا ما كانت أعمال التحالفين أعلاه إلتقت في نقطة ما بهدف "تهديد" تركيا فينبغي على تركيا بناء استراتيجية تمكنها من "القدرة" على "تفكيك" مواقف التحالفين أعلاه وخلخلتهما ومن ثم "تغيير" مواقف التحالفين أعلاه بما يتناسب ومصالحها ومن ثم "تثبيت" المواقف أعلاه "الجديدة" التي تم تغييرها (بما ينسجم مع مصالح "أمنها الداخلي وسلمها المجتمعي وسلامة أراضيها" على أقل تقدير).

الخلاصة، في جميع الأحوال تقريبًا، على تركيا أن تضع في حساباتها استراتيجية تفاوضية "مرنة" تمكنها من تحقيق "أكثر المكاسب وأقل الخسائر"، ما أمكن، على أن يكون المكسب الأول هنا "أمنها الداخلي وسلمها المجتمعي وسلامة أراضيها" و"الحفاظ على ما حققته من إنجازات"، بالأخص منذ عام 2002، ولا بأس من بعض الخسائر ما لم تمس "أمنها الداخلي وسلمها المجتمعي وسلامة أراضيها". والله أعلم

عن الكاتب

أنور عبد الله الرواحنة

باحث مختص في إدارة النزاعات ورسم السياسات


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس