د. أحمد البرعي - خاص ترك برس

لا شك أن للرعيل الأول والمؤسس لأي حركة سياسية طابع خاص يتفرد به دون من يخلفوه على رأس حزبه أو حركته السياسية، ولعل الرئيس التركي الطيب رجب أردوغان الملقب في تركيا بـالـ"الأسطة" (USTA)، يقابلها باللهجة المصرية "المعلم الكبير"، حالة فريدة في هذا السياق إذ أتعب وسيتعب كل من يخلفه على رأس العدالة والتنمية وهو ما دفع "راسم أوزان" أحد أشهر المذيعين الأتراك إلى التطرف بالقول بأن من يخلف أردوغان سيكون رئيسًا لحزب العدالة والتنمية ولن يكون قائدًا أو زعيمًا فالقائد والزعيم هو الطيب أردوغان ولا أحد غيره".

مما لا شك فيه أن الطيب أردوغان بالكاريزما والصفات الشخصية التي يتمتع بها، إضافة إلى فهمه العميق وقربه اللصيق من المواطن التركي واستشعاره باحتياجاته وتطلعاته وعمله الدؤوب على تلبية رغباته والنهوض ببلده واعلاء شأنها إقليميًا وعالميًا، فضلًا عن تبنيه منهج القيادة بالخدمة الذي اتخذه فلسفة وأسلوبًا للثورة الصامتة في التغيير التدريجي لمخلفات الحقبة السابقة من التاريخ التركي الأسود في الانقلابات والتدهور السياسي والاقتصادي. كل ذلك قد جعل من الطيب أردوغان "المعلم الكبير" لحزب العدالة والتنمية وأول رئيس في تاريخ الجمهورية التركية ينتخبه الشعب انتخابًا مباشرًا.

يأخذ البعض، في بعض الأحيان تجنيًا، على أمثال هذه القيادات المتفردة في خصالها وصفاتها القيادية عدم عملها على "مأسسة" الحزب السياسي وخلق قيادات شابة ترث إرثه السياسي والحزبي، وعادة ما يُضرب المثل بالولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من الدول الغربية التي تتفرد بذلك النموذج من تقزيم الفرد وإعلاء شأن المؤسسة، فلا يُحدث تغيير الشخص عظيم أثر في فلسفة ورؤية المؤسسة ورسالتها، بقدر ما يُحدث فارقًا ببرامجه ومشاريعه التشغيلية المرحلية.

بداية إن كون الشخص يتمتع بشخصية فذة وخصال قيادية اختصه الله بها لا ينفي أنه يعمل ضمن فريق عمل ومؤسسة صقلت ونمت وعززت تلك الصفات والملكات التي يتميز بها، هذا فضلا عن أن البعض قد ينسى طبيعة مجتمعاتنا الشرقية التي تتميز بالأبوية الذكورية وباعلاء الفرد على المؤسسة وهو ما قد يبالغ المجتمع التركي فيه أيما مبالغة، فتجد لرب العائلة وكبيرها سطوة وكلمة على جميع أفرادها، وتلمس للأخ الأكبر احترامًا وتقديرًا وكذا للشيخ الكبير ومثله المدير في الشركة، فلا تتعجب عندما تجد أن معظم أسماء الجامعات الخاصة وشركات الأعمال الكبرى التركية تحمل أسماء أصحابها وعائلاتهم وتعلق صورهم على جدارنها وتزين بهم منشوراتها.

أردوغان ابن هذه الثقافة الشرقية واستطاع بما لديه من قبول وحضور أن يأسر قلوب الأتراك حتى بعض من يكرهونه، فذا طالب في الجامعة يقول: "أنا لا أحب الطيب، يقصد أردوغان، ولا أحد في عائلتي كلها يحب أن يسمع صوته، ولكني أشعر بالفخر العظيم، وأرفع رأسي عاليًا عندما أراه يقف بين زعماء العالم ويرفع العلم التركي عن الأرض ويضعه في جيبه. أتذكر صورة رئيس الوزراء السابق بولنت أجاويد وكيف كان يقف ذليلًا أمام بيل كلنتون وأنظر إلى الطيب الآن كيف يقف شامخ الرأس أمام زعماء العالم، فيكبر في نظري ويزداد احترامي له".

لا يتورع الطيب أردوغان عن تقبيل يد كبار السن من الشيوخ والأمهات، بل ويشدد على ذلك في خطاباته إذ دائمًا ما يقول أنا أقبل يد أبي وأمي ومعلمي وشيخي ويجب على صغارنا أن يتربوا على ذلك. كما أن للطيب أردوغان لمسات جميلة تميز بها، فهو دائمًا ما يقبل دعوة الأطفال إلى احتساء الشاي في بيوتهم ويلتقي مع الحرفيين والعمال في مكان عملهم ويجالسهم ويتناول الطعام معهم ويكثر من ممازحتهم وحثهم على ترك التدخين بأخذ العهود منهم على الاقلاع عنه، وكذا تقديمه الطعام بنفسه للجنود والعساكر وحرصه الشديد على الافطار في شهر رمضان مع جميع قطاعات الشعب وخاصة عوائل الشهداء والفقراء من الناس. كل هذا جعل من الطيب أردوغان "أسطة" تركيا الذي يصعب تقليده أو تخطي نموذجه، ويصدق فيه القول "فكم من رجل يعد بألفي رجل وكم من رجل يمر بلا عداد".

في أغسطس من العام 2014 انتُخب "الهوجا" أو الأستاذ البروفيسور أحمد داوود أوغلو خلفًا للطيب أردوغان كرئيس لحزب العدالة والتنمية، وكان التحدي الأكبر الذي واجه داوود أغلو هو أنه سيشغر المكان الذي شغره الطيب أردوغان كرئيس ومؤسس للعدالة والتنمية، وكطبيعة أي تغيير فإنه يصطدم بالمثبطين والمتنطعين ومن يقارنون ويفترضون الفرضيات ويكثرون من استخدام "لو" فلو كان الطيب أردوغان رئيس الحزب ما حدث كذا وكذا. ولو أن داوود أغلو فعل كما فعل أردوغان ما حدث كذا وكذا...

ومما لاشك فيه أن "الهوجا" داود أغلو قد جاء في مرحلة صعبة وحرجة وصلت فيها تركيا إلى درجة عالية من الاستقطاب السياسي والمجتمعي وخاض تجربة الانتخابات البرلمانية بعد أقل من عام من توليه منصب رئاسة الحكومة والحزب ولم تأت نتائجها على ما كان يأمل واتُهم بأنه مجرد ظل للطيب أردوغان وأن الزعيم الأول لا زالت له الكلمة العليا في الحزب والحكومة، مع أن المراقب يعلم أن أردوغان كان يميل لترشيح، بن علي يلدرم، وزير المواصلات السابق، ومستشاره الحالي ولكن الانتخابات الداخلية للعدالة والتنمية جاءت بداود أوغلو.

عمل داوود أغلو مستشارًا للطيب أردوغان ووزير خارجيته فترة طويلة، كما أنه يتفق معه في معظم الملفات الخارجية والداخلية وتتطابق أفكارهم في جل الرؤى الاستراتيجية والتنموية، بل وكان مؤخرًا هو من ينوب عن الطيب أردوغان في اللقاءات الجماهيرية، ولعل ذلك ما جعل الرجل يتأثر بشخصية الطيب أردوغان تأثرًا عظيمًا، فتراه في عامه الأول من رئاسة الحزب يقتفي أثر الطيب أردوغان ويمشي على خطاه في جل الملفات والقضايا وفي الوقت ذاته يحافظ على التوزانات ومراكز القوى الحزبية، ويسدد ويقارب بين آراء الحرس القديم وطموح الشباب وتطلعاته، ويحاول أن يملأ الفراغ الذي تركه الطيب أردوغان بشكل قلّ نظيره.

أكثر الرجل من الخطابات الجماهرية في الحملة الانتخابية، وهي ما يتميز بها الطيب أردوغان، حتى إنه زار كل الولايات التركية الواحدة والثمانين، في سابقة هي الأولى في تاريخ أي رئيس وزراء تركي. كما أنه حرص على المشاركة في افتتاح المشاريع التنموية والاقتصادية تأسيًا بسنة الطيب أردوغان، كما أنه واظب على لقائه التلفزيوني الشهري مع الشعب كما كان يفعل سلفه، وحرص أيضًا على متابعته في لمساته المجتمعية بطريقة مختلفة فنزل إلى السوق وباع المتسوقين، ولاطف الصغار، واحتضن الشيوخ والكبار، واستطاع "الهوجا" أن يأسر قلوب الأتراك كما فعل من قبله الطيب أردوغان.

كما استطاع "الهوجا" داوود أغلو أن يرسم لنفسه صورة مغايرة للقائد الأكاديمي المثقف والقارئ المتبحر، فيكثر من زيارة الجامعات والمكتبات وأهل العلم، ويحرص على ابراز هويته الأكاديمية والعلمية في معظم لقاءاته التلفزيونية، كما وينزع أيضًا إلى الخطاب الوحدوي والوطني للم الشمل ورأب الصدع وتقريب الآراء ووجهات النظر، وخاصة بلقاءاته المتكررة مع زعماء أحزاب المعارضة في مشاورات تشكيل حكومة ائتلافية بعد انتخابات السابع من يونيو/ حزيران الماضي وهو ما لم يفعله أردوغان منذ مدة، إذ وصلت حالة الاستقطاب اقصاها في السنوات القليلة الماضية إلى الدرجة التي كان يصعب فيها اجتماع رئيس الحكومة وقتئد الطيب أردوغان مع أي من رؤساء أحزاب المعارضة.

لقد قالها عمر بن الخطاب يومًا "لقد أتعبت الخلفاء بعدك يا أبا بكر" وجاء عمر ليتعب الخلفاء بعده أكثر وأكثر، ويا لها من سنة حميدة أن يأتي قائد يخلفه من يعزز ما أسس له ويبنى على ما بنى سلفه، ويمضي بنماذج ومنارات تنير لخلفه ومن سيعقبه، فهكذا يكون البناء وهكذا تُبنى الأمم. لا تقوم أمة ولا يُخلد زعيم بإلغاء من سبقه وتحطيم ما أنجزه غيره وإن قل في عينه وإن صغر في نظره، هو جيل يجهز لجيل ويد تبني لأخرى تستمر.

عن الكاتب

د.أحمد البرعي

باحث ومحاضر في قسم الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة أيدن


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس