محمد زاهد جول - صحيفة القدس العربي

كثيرة هي التحليلات السياسية التي سوف تسعى لتفسير أسباب الفوز الكبير لحزب العدالة والتنمية في انتخاباته البرلمانية الخامسة 1/11/2015 التي بدأت في تركيا منذ عام 2002.
هذه التحليلات لن تستطيع الاقتراب من الحقيقة، ما لم تقرأ هذا الفوز في سياق الفوز في الانتخابات الحادية عشرة التي خاضها حزب العدالة والتنمية في السنوات الماضية، والتي شارك فيها وعرض نفسه فيها على الشعب التركي والتصويت الشعبي وينجح فيها جميعاً، بما فيها ترشيحه لمؤسسيه في الانتخابات الرئاسية وفوزه فيها عام 2007 بفوز الرئيس عبدالله جول، وفي 10 أغسطس 2014 بفوز مؤسس الحزب السيد رجب طيب أردوغان، برئاسة الجمهورية التركية، فضلاً عن الاستفتاءات التي فاز فيها في مشاريع تعديل الدستور، فهذه الخلفية هي التي تعطي سر النجاح الحقيقي، فهي مليئة في الإجابة الوافية، التي ينبغي قراءة حدث انتخبات الأول من نوفمبر 2015 من خلالها، ومن خلالها أيضا ستتم معرفة ما جرى في انتخابات 7يونيو 2015، التي لم تمكن حزب العدالة والتنمية من تشكيل الحكومة بمفرده.

السر الأول لنجاح حزب العدالة والتنمية أنه استطاع إقناع الشعب التركي بأنه هو حزب الهوية التركية الحضارية الصادقة والحقيقية، وحزب الديمقراطية المحافظة، وحزب علمانية مؤسسات الدولة، وليس علمانية مؤسسات المجتمع التركي ومشاعره وقيمه وأخلاقه، وحزب العمل الحزبي القانوني والدستوري، بينما الأحزاب السياسية الأخرى أرادت فرض هويات أخرى، إما علمانية غربية لا تحترم هوية الأمة التركية ولا تاريخها، وإما أحزاب قومية ضيقة كارهة للوحدة الوطنية، وإما أحزاب سياسية عنصرية ترتبط بأجندة خارجية معادية لتركيا القوية والمتقدمة، أي أن الأحزاب السياسية التاريخية، ومنها حزب الشعب الجمهوري، وحزب الحركة القومية، فقدت قدرتها على أن تكون مقنعة للشعب التركي في تمثيله في هويته القومية الحضارية التاريخية والحديثة والمعاصرة معاً، كما نجح فيها حزب العدالة والتنمية، فحزب العدالة والتنمية هو حركة إصلاحية لكل الشعب التركي، وليس لقومية معينة، وليس لطائفة معينة، وإنما لكل الشعب التركي ونهضته وتقدمه. 

أما حزب الشعوب الديمقراطي فليس الغريب أن لا يحصل في انتخابات 1 نوفمبر على النسبة نفسها التي حصل عليها في السابع من يونيو الماضي، وإنما الغريب أنه حصل على تلك النسبة في السابع من يونيو، لأن الكرد في تركيا هم أقرب إلى حزب العدالة والتنمية من حزب الشعوب الديمقراطي، الذي تم تأسيسه من قبل زعيم حزب العمال الكردستاني ومباركة منه، حتى يكون ممثلاً سياسيا لمطالب الشعب الكردي في تركيا، وليس حزبًا مؤيدًا للإرهاب ولا معاديا للشعب التركي، ولذلك كانت مهمته أن يدخل البرلمان التركي ليكون ممثلا سياسيا للأكراد، لتحقيق وحدة أقوى في الانتماء الوطني للدولة التركــية، وهــذه المهمة شجعها حزب العدالة والتنمية منذ وصول حزب العدالة والتنمية للحكم عام 2002، ولكنه لم يعبر عنها صراحة إلا عام 2005 على لسان رئيس الحزب ورئيس الوزراء، رجـــب طيب أردوغان، في ذلك الوقت، وقد بدأت الحكومة التركية الخطوات العملية في مشروع المصالحــة الوطنية عام 2009، وبطريقة سرية بين هاكان فيدان مدير المخابرات الوطنية التركية وقيـــادات من حزب العمال الكردستاني داخل تركيا وخارجها، حتى توصلت إلى توافقات مبدئية في يونيو 2013، ولذلك فإن نجاح حزب الشعوب الديمقــراطي في دخول البرلمان كان مطلبا للحكومة الـــتركية وحزب العدالة والتنمية، كما هو مطلب لعبدالله اوجلان ولقيادات حزب العمال الكردستاني الراغبة في المصالحة الوطنية ونجاح عملية السلام داخل تركيا.

لذلك كان فوز حزب الشعوب الديمقراطي في انتخابات 7 يونيو ضمن رؤية متفق عليها بين الحكومة التركية مع حزب الشعوب الديمقراطي، وتلبية لرغبة أوروبية وأمريكية في تمثيل الأكراد في البرلمان، من خلال نواب حزب الشعوب الديمقراطي، ولذلك جرى رسم عدة معادلات واتفاقيات علنية وسرية لإنجاح حزب الشعوب الديمقراطي في انتخابات 7يونيو، مع وجود قناعة تامة بأن ذلك الفوز لن يكون على حساب حزب العدالة والتنمية، ولكن عدم قدرة حزب العدالة والتنمية على تشكيل الحكومة بسبب عدم فوزه بالأغلبية المطلوبة، فتح المجال لكل الأحزاب التركية المعارضة في داخل تركيا، ولكل القوى الدولية المعارضة لسياسات حزب العدالة والتنمية داخل تركيا وفي المنطقة، أن تطمع باستغلال الظروف السياسية غير المستقرة في تركيا، ودعاها ذلك إلى وضـــع العراقــــيل أمام حزب العــــدالة والتنمية لإضعافة أولاً، وفرض إرادتهم بإضعاف تركيا ثانياً، واللعب في ميدانها السياسي داخل تركيا وعلى حدودها، بما يؤثر على أمنها القومي، وبالأخص من داخل سوريا، وللأسف فإن قيادة حزب الشعوب الديمقراطي الفاقدة للخبرة السياسية، والخاضعة لأوامر قيادة حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل، والمرتبطة ببعض القوى الأوروبية والأمريكية المناهضة لسياسة الحكومة التركية التي يقودها حزب العدالة والتنمية، كانت شاركت في ذلك، فكانت مخطئة في فهم الشعب التركي، ومخطئة في تقدير جوابه وربما عقابه لها.

لقد كان سلوك حزب الشعوب الديمقراطي خلال الأشهر الأربعة الماضية ضد مشاعر الشعب التركي والكردي معاً، فالشعب التركي والكردي أرادوا نجاحه وانتخبوه ليعمل ويتعاون مع الحكومة التركية وحزب العدالة والتنمية لمصلحة الشعب التركي كله، وفي كل مناطقه الجغرافية، ولكنه أخطأ في انتهاز هذه الفرصة التاريخية بسبب خضوعه لأوامر قيادة حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل الخاضعة لأوامر الحرس الثوري الإيراني، لذلك لم يكن أمام الشعب التركي إلا أن يصحح أخطاء الانتخابات الماضية، فهو لا يريد أن يعطي أصواته لحزب الشعوب الديمقراطي من أجل ان يحاربه بها، ولم يكن يتوقع الشعب التركي في انتخابات 7 يونيو، أن حزب العدالة والتنمية لن يتمكن من تشكيل الحكومة، وإلا لما وافق على تغيير تصويته لأحد غيره، فلا يقبل أي شعب أن ينزع رأسه عن جسده، ولا أن يتزعمه حزب غير حزب العدالة والتنمية.

إن حزب العدالة والتنمية هو حزب العقل التركي الحديث، وليس عقل أردوغان ولا عقل أحمد داود اوغلو، فهو نتاج تجربة سياسية منذ نشوء الجمهورية قبل اثنين وتسعين عاماً، فحزب العدالة والتنمية هو خلاصة عقل الشعب التركي بعد كل هذه العقود والسنين من المعاناة والفشل والتأخر والتخلف والخضوع للإرادة الأمريكية والأوروبية والمديونية لصندوق النقد الدولي وانهيار الليرة التركية في السنوات والعقود الماضية، ولذلك ليس غريباً عندما تعرضت تركيا للخطر بعد الهجمات الإرهابية الأخيرة في سوروج وأنقرة أن تهجر القيادات المخلصة للأحزاب السياسية التركية الأخرى أحزابها وتلتحق بحزب العدالة والتنمية، فهؤلاء الأبطال أدركوا أن المعركة ليست مع حزب العدالة والتنمية، كما حاول الأعداء أن يصوروها أمام الشعب التركي، وإنما المعركة مع الشعب التركي كله، فالتحق من التحق من أبناء الأحزاب السياسية الأخرى إلى حزب العدالة والتنمية لإنجاح تركيا وليس لإنجاح حزب العدالة والتنمية، إلا بما يمثله من مصداقية لإرادة الشعب التركي وقوته ودفاعه عن مكتسباته، وحمايته من الإرهابيين ومن يقفون وراءهم داخل تركيا وخارجها.

لا شك أن منجزات حزب العدالة والتنمية في السنوات الثلاث عشرة الماضية التي حكم فيها ونفذ من خلالها برامجه الانتخابية، كان لها دور كبير في نجاحه، لأنها كانت كبيرة أيضاً وشهد بها خبراء العالم الاقتصاديين، وكذلك كان لوعوده المستقبلية في انتخابات الأول من نوفمبر دور في نجاحه أيضاً، ولكن الأهم من كل ذلك هو أن هذا الحزب كسب ثقة الشعب التركي، فلما تعرض الشعب لمخاطر الإرهابيين في سوروج وأنقرة وغيرها هرع الشعب كله لانتخاب من يحميه من أعدائه، ومن يستطيع محاربة الإرهابيين الذين يستهدفون تركيا في الداخل والخارج.

إن نسبة التصويت التي يتمتع بها الشعب التركي وهي الأعلى عالمياً، حيث بلغت 87٪ من الذين يحق لهم التصويت هي دلالة قاطعة بأن الشعب التركي في هذه الانتخابات البرلمانية دافع عن نفسه وعن حقوقه وعن مستقبل أبنائه، فانتخابات الأول من نوفمبر لعام 2015 كانت انتخابات حماية تركيا من الأعداء، وتسليم مجلس الأمة التركي الكبير (البرلمان) والحكومة التركية للأمناء، ولكل من يدافع عن تركيا ويحميها من الإرهابيين، وكل من أراد حماية تركيا من أعدائها، قد فاز في هذه الانتخابات بغض النظر عن قوميته او حزبه السياسي الذي ينتمي له، سواء صوت لحزب العدالة والتنمية أو لغيره، فالفوز هو للأمة، والانتصار هو للدولة.

عن الكاتب

محمد زاهد جول

كاتب وباحث تركي مهتم بالسياسة التركية والعربية والحركات الإسلامية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس