بكر صدقي - صحيفة القدس العربي

ليس فقط أحزاب المعارضة جميعا خسرت بالفوز الكاسح لحزب العدالة والتنمية، بل كذلك كانت الشركات المتخصصة في استطلاعات الرأي من أهم الخاسرين، ومعها كثير من المحللين السياسيين في تركيا وخارجها. واستند كاتب هذه السطور إلى نتائج استطلاعات الرأي وآراء المحللين الأتراك، ففشلت توقعاته في المقالة المنشورة هنا الأسبوع الماضي. وعموما ليس من الحصافة في شيء توقع هذا الفوز الكبير لحزب ترهل في السلطة بعد ثلاثة عشر عاما من الحكم المنفرد ولاحقته تهم الفساد، ناهيكم عن الظروف الاستثنائية التي جرت فيها انتخابات تقرر تكرارها، فقط لأن نتائج الانتخابات السابقة لم ترض الحزب الحاكم وطموحات قائده الفعلي رجب طيب أردوغان.

عدد من أركان العدالة والتنمية نفسه عبروا بصراحة عن مفاجأتهم بما تحقق لهم من فوز كاسح سيمكن الحزب من تشكيل الحكومة بمفرده، وإن كان عدد نوابه في البرلمان لا يسمح له بتمرير الانتقال إلى النظام الرئاسي كما كان يأمل رئيس الجمهورية وقاعدته المخلصة في الحزب.

بالمقابل، تشمل قائمة الخاسرين كل الأحزاب المعارضة والقاعدة الاجتماعية الرافضة للميول السلطوية الجامحة لدى أردوغان. ويأتي على رأس هذه القائمة رئيس حزب الحركة القومية دولت بهتشلي الذي عاقبه الناخب على سلبيته السياسية في أعقاب انتخابات السابع من حزيران، حين كانت سياسته تتلخص في رفض كل المبادرات التي طرحت للخروج من أزمة الفراغ الحكومي، بما في ذلك العرض الذي قدمه له حزب الشعب الجمهوري بتشكيل ائتلاف حكومي معه يكون بهتشلي رئيسها. وكذا رفضه لأي موقف يضعه في صف واحد مع حزب الشعوب الديمقراطي، الأمر الذي أفقد المعارضة، حينذاك، منصب رئاسة البرلمان. وكما كان هذا الحزب الذي ينتمي، بإيديولوجيته القومية المتطرفة، إلى الماضي ولا يملك أي مشروع سياسي لتركيا المستقبل، حجر عثرة أمام توحيد المعارضة في مواجهة العدالة والتنمية، كذلك رفض أي ائتلاف حكومي مع هذا الأخير إلا إذا تحققت شروطه التعجيزية من مثل تسليم رأس بلال أردوغان، نجل رئيس الجمهورية، المتهم بدعاوى فساد للعدالة.

إلى ذلك تمكن أردوغان وحزبه الحاكم من تحويل خسارة الحزب القومي من قاعدته الانتخابية إلى ربح صاف لهما، بسبب السياسة القومية المتشددة التي اتبعتها الحكومة الانتقالية في الأشهر السابقة، من خلال المواجهة العسكرية المفتوحة مع حزب العمال الكردستاني والإجهاز على مسار الحل السلمي للمشكلة الكردية. فانتقل نحو مليوني صوت من أصوات القوميين المتشددين للتصويت لحزب العدالة والتنمية. كذلك خسر حزب الشعوب الديمقراطي نحو مليون صوت ممن صوتوا له في الانتخابات السابقة، قسم منها من البيئة العلمانية – اليسارية التركية سميت ب"الأصوات المقترضة" التي صوتت للحزب الكردي لإخراجه من تحت حاجز العشرة في المئة، بهدف وحيد هو تحقيق خسارة كبيرة للعدالة والتنمية وإسقاط أحلام أردوغان في النظام الرئاسي. هذه الأصوات ذهبت، بتقدير المحللين الأتراك، إلى حزب الشعب الجمهوري، أو بالأحرى عادت إليه. أما القسم الآخر من الأصوات التي خسرها "الشعوب الديمقراطي" فهو من قاعدته الاجتماعية الكردية في جنوب شرق الأناضول. وكان هؤلاء الناخبون من البيئة الكردية المحافظة يصوتون عادةً لحزب العدالة والتنمية، وخسرهم هذا الأخير، في انتخابات حزيران، بسبب سلبية الحكومة تجاه الحل السلمي. أما وقد رأوا حزب العمال الكردستاني يعود إلى نهج العنف، بعد مجزرة شرناق، ويقوم أنصاره بقطع الطرق العامة وحفر الخنادق وإعلان "الإدارة الذاتية" من طرف واحد في عدد من البلديات، فقد عادوا إلى التصويت للحزب الحاكم أملاً في تحقيق الاستقرار الأمني والاقتصادي في مناطقهم.

والحال أن رائز تفضيل الاستقرار على الفوضى والعنف اللذين طبعا الحياة العامة في تركيا في الفترة الفاصلة بين انتخابين، كان الرائز العام الذي حدد النتيجة المفاجئة للانتخابات. ما يسمى بـ»الكتلة المترددة» حسمت أمرها لمصلحة الاستقرار، وبذلك نجحت خطة أردوغان المتمثلة بابتزاز المواطنين بأمنهم ولقمة عيشهم، فكانت الحكمة تقتضي منهم «تصحيح الخطأ» الذي ارتكبوه في السابع من شهر حزيران الماضي، فصوتوا بكثافة للحزب الحاكم الذي أذهلته، هو نفسه، نسبة الخمسين في المئة التي حصل عليها من مجمل أصوات المقترعين، وعدد المقاعد النيابية التي حصل عليها (317). بل كان من المحتمل، حتى اللحظات الأخيرة من فرز الأصوات، أن يحصل على مزيد من المقاعد لو أن حزب الشعوب الديمقراطي سقط تحت حاجز العشرة في المئة، وقد نجا من هذا المصير بصعوبة (عشرة فاصل سبعة في المئة).

ومن المصادر المفترضة لفوز العدالة والتنمية بهذه النسبة الكبيرة، قسم كبير من أصوات حزبي "السعادة" الإسلامي، وريث التركة الأربكانية، و"الوحدة الكبرى" القومي المتشدد اللذين فكا عرى التحالف بينهما بعد انتخابات السابع من حزيران، فتحول ناخبوهما إلى التصويت للحزب الحاكم.

من الأسئلة التي طرحها هذا الفوز الكبير على الرأي العام، السؤال عمن يكون أبوه: أردوغان أم داوود أوغلو؟ منذ عين الأول الثاني خليفة له في رئاستي الحكومة والحزب، والمعارضة تتحدث، من جهة أولى، عن صراع محتمل بين الرجلين على قيادة الحزب (وبالتالي الحكومة)، ومن جهة ثانية، عن أن داوود أوغلو هو مجرد منفذ مطيع لتوجيهات أردوغان، خاصةً وقد أعلن الأخير صراحةً أنه سيترأس اجتماعات مجلس الوزراء متى أراد ذلك، كما أنه تدخل بنشاط في الحملة الانتخابية السابقة (حزيران) لمصلحة العدالة والتنمية على رغم أن الدستور يفترض حياد رئيس الجمهورية إزاء الأحزاب السياسية. ويقال إن أردوغان يتدخل في الشؤون الداخلية للحزب في كل كبيرة وصغيرة، ليضمن استمرار ولاء أطره القيادية، بمن فيهم رئيس الحزب داوود أوغلو، لشخصه.

الجديد اليوم بهذا الصدد هو أن الحزب، بقيادة داوود أوغلو، طوى صفحة انتكاسته الحزيرانية بسرعة وحقق نتيجةً مبهرة. ويعزى أحد عوامل هذا النجاح إلى تراجع أردوغان النسبي عن المشاركة المباشرة في حملة الحزب الانتخابية، بالقياس إلى نشاطه المكثف في الحملة السابقة، فقل ظهوره في الاجتماعات الجماهيرية المخصصة لدعم الحزب، وذلك استجابة للانتقادات التي تلقاها على نشاطه المذكور في الحملة السابقة. 

في الأيام القليلة القادمة ستتشكل حكومة جديدة برئاسة داوود أوغلو، لن يعفيها فوزه الكبير في الانتخابات من مواجهة تحديات كبيرة في السياسة كما في الاقتصاد، وفي الداخل كما في الخارج.

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس