محمد الحمداوي - خاص ترك برس 

تَتعدّد الاختيارات التَّنظيمية والهيكلية للهيئات والمؤسَّسات والحركات الإسلامية، وتتنوّع الأشكال والأجسام الحركية، منها الذي اختار - استباقًا -  الاشتغال بخيار البناء التَّراكمي ونَهْج طريق الإصلاح المتدرّج، الــمُتَّبِعِ سياسةً تنظيميةً ومؤسّساتيةً واضحة، ومنها مَن اختار تحت طائلة الظّرفية والسِّياق السّياسي انتهاج وبناء عمل تنظيمي يقوم على التّغيير الجَذري أو الثَّوري، ومنها مَن لم يتقبَّل فكرة العمل بالتّنظيمات مِن أصلِها، سواءٌ كانت عفوية أو مُنظَّمَة، مُعتَبِرين مسألة التَّنظيمات باطِلة ومرفوضة شَرعاً وواقِعاً، مُعْمِلَةً فيه وفي العاملين به النّقد والنّقض، وكاشفة جملة مِن أخطائه ومعايِبه وعدم صلاحيته؛ ولو ارتَبَط الأمر بخدمة الدّين ودعوة النّاس إليه. ومنها كذلك ما يمكن أنْ يُطْلَقَ عليه "التَّنظيمات الفطرية أو التِّـلقائية"، والتي انْتَهَجَت لنفسها مَساراً مغايراً واخْتطَّت طريقة عمل مخالفة للتّنظيمات الحركية ووصفت هذه الأخيرة بالتنظيمات الميكانيكية والاستصنام التنظيمي.

وسنتناول بعض خصوصيات "التَّنظيم الفطري والكيان الموازي" للتحذير منها ولعلَّ ذلك يُسعِف في فهم دواعِي تبنّي مَدرسة التوحيد الإصلاح المغربية خيار التَّنظيم الرِّسالي الواضح الذي تَــنْزِل مِن خلال آلياته وطرائقه وبرامجه ومؤسَّساته وخُططه ومحطَّاته الانتخابية ومجالِس شُوراه رسالة الحركة وأهدافها ومَراميها.

ويمكن التوقّف عند أربع خصوصيات، بناءً على مُعايَشَة واطّلاع واحتكاك بعددٍ مِن الاختيارات والأشْكال التَّنظيمية في العالم الإسلامي:

فالخصوصية الأولى التي تميز الفطرية والكيانات الموازية: هي ادِّعاء التّلقائية، تلقائية في تجميع الأفراد والأتباع، وتلقائية في تنصيب القائد أو الأستاذ المُرشد،كما عبر عنها المرحوم فريد الأنصاري في كتاب الفطرية "فالقيادة الشَّرعية للعمل الإسلامي – على خلاف السِّياسية المحضة - يُفرزها علمُها وورعُها، وتصنعها تجربتُها، فتنتصب للناس هنا وهناك بلا حرص، وتؤم المجتمع بصورة طبيعية تلقائية، بلا تحيل، ولا تشنج، ولا قتال! لا تفرض نفسها فرضا، ولا تسعى إلى ذلك قصدا، وإنما الناس هم الذين يطلبونها؛ لما فاض عنها من العلم والهدى..."، وتلقائية في توزيع التّكليفات والمهام ومراتِب القيام بالمسؤوليات، وتلقائية في قَبُول فلسفة العمل وتَبنّي الخطاب وطُرُق نَشر الفكرة وتعميمها، وفي مخُتلف أنواع الطّاعات والقُرُبات والعبادات، تصِل إلى حدّ اعتبار العمل الفطري في حدّ ذاته عبادة، أو دين مُستقِل، التلقائية فيه وسيلةً وغاية. كما جاء في كتاب الفطرية "ومِن هنا فَارَقَ التَّنظيمُ الفِطريُّ التَّنظيمَ الحركيَّ الميكانيكيَّ؛ فالفِطريُّ دينٌ بذاته، ولذلك لم تَكن الدَّعوة إليه وبه إلا عبادةً لله ربّ العالمين. وأما الميكانيكي فالدَّعوة به مغامرة! إذْ كثيراً ما تَنْجَرُّ بصورة تلقائية إلى الدَّعوة إليه، وهو ليس بِدينٍ في ذاتِه، بل هو عمل بَشريٌّ مَحضٌ"[1]، ممّا يجعَل القائمين على التّنظيم الفِطري في سَعْيٍ دائبٍ للإعلاء مِن التّنظيم بشكل تلقائيٍّ إلى أن يأخذَ موقِعه في أنفسهم وأتباعهم مقَام الدّين أو الشَّيء الـمُتَعَبَّدِ له. 

والخَصوصية الثّانية هي: الغُموض والكُمون؛ حيثُ يَدخل التَّنظيم الفطري في مُتوالِية مِن الكُمون وعدم الوضوح تَطالُ جوانبه التَّنظيمية والفكرية، وخُطط عمله ومغامراته. كُمونٌ يُطْلَب مِن الأتباع الاتّصاف به، دون أن يَتساءلوا حول ماهية التوجُّه، وطبيعة الأهداف، والأدوار المَنوطة بهم، ودون أن يعتِرضوا على غياب مؤسَّسات الشُّورى والانتخاب ومراتِب المسؤوليات، أو يَكون لهم موقِفٌ أو رأيٌ إزاء أمْرٍ يُطَلبٌ منهم تنفيذه أو خُطّة يتوجّبُ عليهم القيام بكل خطواتها ولو اقتضى الأمر التَّـقِـيَّـة والموارَبة واعتناق مَنطق الاختراقات العمودية والأفُقية؛ ممّا يُدخِلهم في حالة مِن الجاهزية المؤجَّلَة والفاعلية الـمُعَطَّلَة والدَّافعية المنْتَظِرَة للأوامِر الـمُشَفَّرَة، فيُفَوَّتُ الوعي والإرادة الحُرّة للأشخاص إرضاءً للزّعيم أو القائد أو الأستاذ الذي لا يُرى ولا يُلمَس ولا يَقتربُ منه إلا الصّفوة والخُلَّص مِن مُدبِّري التنظيم الفطري والقائمين على استمراريته، فيصير التَّنظيم ضَليعا في تخريج أتباع مُتَرَبِّصِين مُنْتَظِرِين، عاجزا عن بناء قادَةٍ بارزين وأعضاء عاملين مُعْتَزِّين بانتمائهم، مُبادرين ورسَالِيِّــين.

الخصوصية الثَّالثة هي: عقلية التّمكين والتمكن، إذْ بِقَدر ما يَتَضَاعف عَدَدُ الأتباع والأشياع والمُنتَسبين للتَّنظيم التِّلقائي الفطري الكُمُوني؛ بقدْر ما تتضاعَف شَهِيَّــتُه للتّمكين لنفسه مِن خلال بَثِّ العَناصِر والـمُرِيدين في أوساط مُختلِف الشَّرائح والطّبقات الـمُجتَمَعية، وفي أجهزة الدَّولة ووزاراتها وهياكلها السِّياسية والمؤسَّساتية. فتكاد تكون عَقلية التّمكين والإحلال لخلايا التَّنظيم الفطري ولعناصره وأتباعه مُهَيمِنة وحاكِمة لمسارِه وثابِتٌ مِن ثوابِت وجوده. بل تُؤدّي ظاهرة الكُمُون والرغبة الجامحة في التمكن لدى التّنظيمات الفِطرية إلى اضطرارها لإظهار شيء وإضمار آخر، عوض التعبير الواضح والصريح عن  غاياتها وأهدافها، فتركز بالتالي على تمليك الفكرة والقضية للمجتمع ومؤسساته عوض التركيز على تمكين التنظيم من التسرب للمراتب والتسلق للمواقع.

الخصوصية الرَّابعة هي: المَشروعية الموازية للمُؤسَّسات؛ فالتَّنظيم يقوم على شرعية زعيم مؤسِّس أو أستاذ مُرشِد يَبْلُغ الاعتقاد لدى الأتباع والمُريدين بأنَّ ما يشبه العِصمة قد حَلّت فيه، وأن تنصيبه يتم بتلقائية  لا يجوز تعدِّي ما يُحدِّدُه لهم مِن خُطُوط ويَرسمه لهم مِن مَعَالم، ولا يَتطاوَلون على ردِّ رأيه أو مناقَشةِ مَساعيه والتّشكيك فيها، أو المُطالَبَة بتغْييره أو إقالته،ولا يشاركون في اختياره وانتخابه كما جاء في كتاب الفطرية: "إن أئمة بعثة التجديد لا تصنعها الانتخابات الراجعة إلى أصوات العوام! ولا الديمقراطيات التي قد تُغَلِّب الغثَّ على السمين، وتنصر الباطل على الحق؛ بمجرد كثرة الغث، وغلبة أهل الباطل عددا".

فلا يكادونَ يَعلمون مَكان اجتماعات الأستاذ ولا مَع مَن يُدبِّر الأمر ولا أيَّ الجهات يُدعِّم ومَن يُدعِّمه. ففي ظلِّ غياب المؤسَّسات وانعدام التّعددية الاجتهادية لتوطينها أو اقتراحها حتّى؛ وانعدام الهياكِل والهرمية التنظيمية؛ تَبرزُ الشَّخصانية في القيادات غير المنتخبة التي تنتمي إلى دوائر وخُطوط مُعيّنَة، فيخضع الأتباع والأشياع تلقائيا وبصورة لا إرادية لشخصانية القائد، وتتضخّم "الأنا التَّنظيمية التِّلقائية" مُلقِيةً بظِلالهِـا وضَلالِها على التَّـنظيم كلِّه، ومخضعة إيّاه لمنطق هيكليٍّ تنظيمي غير واضح  تَـنْخَنِقُ في فضاءاته كلّ محاولات التّصحيح ، وتسلب حقوق وأدوار العُضو، فيصير إلى مُجرّد (رَقم) ينتظر من يُحرّكه، ويتلقّى التّكاليف ويُفْدِي الزعيم بماله ووقته وروحه إنْ اقتضت الضّرورة، ويَخشى إنْ خالَف أو انْـتَـقَد أنْ يُزَحْزَح خارِج الجماعة بطُرق ذكية ومُتدرِّجة!

تتنوَّعُ الأسباب الجامِعة للانحراف في التَّنظيمات الفِطرية، لكن الترّكيز مِن قِبَلِنا على أربَعِ خصائصَ تكفي إيضاحاً لأخطاء وانحرافات الكيانات الموازِية، ويُبيِّن خطورة التلقائية المزعومة  والتَّمكين المتمكن والكُمون المتربص والزّعامية الفَردية الأنانية باعتبارها أَوْثَانًا معنوية تَنْتَصِبُ في عقل القائد ووجدانه وتَنْعكِسُ في الوجدان العام لأتْباعه ومُريديه.

عن الكاتب

محمد الحمداوي

الرئيس السابق لحركة التوحيد و الإصلاح بالمغرب


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مواضيع أخرى للكاتب

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس