تزايدت العلاقات المتوترة بين روسيا وحلف الناتو في الأشهر الأخيرة، وقد اعتبر البعض ذلك عودة إلى الحرب الباردة من بوابة الاقتصاد أولاً، ثم تبعتها زيادة في المجالات العسكرية من دون استثناء للسباق النووي من جهة روسيا، وكراهية غربية، بحسب ما تعلنه الدول الغربية، وكأن الرئيس الروسي يواجه الضغوط والعقوبات الاقتصادية، بتهديدات عسكرية أو فتح لملف التسلح والتوتر العسكري، ولو على صعيد بعض القضايا الدولية، في مقدمتها القضية الأوكرانية، وقضية القرم وغيرها.

بدا ذلك التصعيد الروسي في تعهد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أمام نواب شعبه في الكرملين بعدم السماح لأي دولة في العالم أن تتفوق على روسيا عسكريا، ما استوجب في المقابل إعادة إحياء للدور العسكري لحلف الناتو، الذي يضم الدول الغربية أمريكا واوروبا الغربية وتركيا، وما أضيف إليها من دول أوروبية شرقية كانت في الماضي القريب دولاً في حلف وارسو المنحل، وأغلبها دول محيطة او قريبة من دولة روسيا الاتحادية، بما فيها دعوة أوكرانيا إلى ان تكون عضوا في حلف الناتو، وهي قضية مثار خلاف كبير بين روسيا والغرب في الأزمة الحالية، ما دفع الرئيس الفرنسي أولاند إلى التصريح بأن فرنسا لا ترى ضرورة في انضمام أوكرانيا إلى الناتو لتخفيف التوتر مع روسيا.

إن ذلك يعني أن توترات روسيا مع الناتو آخذة في الازدياد في المرحلة المقبلة، وهذا يعني تزايد اهتمام الغرب في تقوية حلف الناتو عسكريا أيضاً، وهذا لا يتم إلا بمشاركة تركية قوية، فالاجتماع الأخير لحلف الناتو في العاصمة البلجيكية بروكسيل بتاريخ 6/2/2015، قرر زيادة عدد قواته العسكرية من ثلاثة عشر ألفا إلى ثلاثين ألف جندي، وتشكيل قوة «تدخل سريع» تتألف من خمسة آلاف جندي بداية العام المقبل 2016.

هذا الاجتماع شارك فيه وزير الدفاع التركي عصمت يلماز ممثلاً لبلاده، وبحضور وزراء دفاع حلف الناتو وحضور أمينه العام ينس ستولتنبرغ، الذي صرح في الاجتماع بأن: «قوة التدخل السريع ستكون مرنة بما فيه الكفاية ليتم نشرها خلال فترة قصيرة جداً في مناطق تشهد أزمات». وقال ينس: «إن زيادة قوة الناتو وإنشاء قوة التدخل السريع يأتيان ضمن خطة زيادة القدرات الدفاعية الجماعية للحلف». وعلل ذلك قائلاً إن: «زيادة قدرات الحلف تعتبر رد فعل على انتهاكات روسيا للقانون الدولي، وضمه جزيرة القرم، وهي متوافقة تماماً مع التزاماتنا الدولية».

هذا التوتر لا بد أن يؤثر على العلاقات السياسية والاقتصادية والسياحية المتنامية بين تركيا وروسيا، فبينما تذهب العلاقات إلى التحسن برغبة مشتركة بين الدولتين، بسبب ما تواجهه كلا الدولتين من تحديات، من أهمها المشكل الاقتصادي، فإن ذلك التوتر سوف يؤثر على هذه العلاقات، مع الأخذ بعين الاعتبار أن العلاقات التركية الروسية يكفيها التوترات البينية، بالأخص الموقف من بعض القضايا السياسية في المنطقة، ومنها قضية القرم والمشكلة السورية، أي أن تركيا معنية بأن تحسن علاقاتها مع روسيا لا أن تزيدها سوءاً، 

فحجم التبادل الاقتصادي بين تركيا وروسيا اليوم يبلغ (33) مليار دولار، وتسعى الحكومة التركية إلى زيادته في الخطط الاستراتيجية المستقبلية بين البلدين ليبلغ (100) مليار خلال الخمس السنوات المقبلة، و(200) مليار دولار خلال العشر السنوات، وهذا يعني أن خلافات وجهات النظر بين الدولتين ينبغي تجاوزها أمام التعاون الاقتصادي الكبير بينهما، لا زيادتها، إضافة إلى أن تركيا باب روسيا البحري من البحر الأسود إلى البحر المتوسط، وهذا شريان حياة بالنسبة لروسيا، وكذلك حاجة تركيا إلى الغاز الروسي كبيرة جداً، لأن 70٪ من الغاز الذي تحتاجه تركيا يأتي من روسيا، وهذا شريان حياة اقتصادية واجتماعية وسياسية للدولة التركية، لذلك فإن أي توتر بين الناتو وروسيا سوف يكون محرجاً للحكومة التركية،

وعكس أمنياتها، هذا الموقف المحرج أدركه وزير الدفاع التركي عصمت يلماز، ولذلك جاء تصريحه محاولة في تهدئة التوتر الذي سوف ينشأ مع روسيا، فقال: «إن القوة المشكلة تهدف للدفاع عن دول الحلف، وانه لا يوجد سبب لخشية أو قلق روسيا من تشكيل هذه القوة». وهذا يعني أن تركيا معنية بسياسة استراتيجية توازن بين علاقاتها والتزاماتها مع الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو والعلاقات الاقتصادية المنشودة مع روسيا، فتركيا لا تستطيع التخلي عن أحدها، تركيا معنية بتحسين علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي لمستوى العضوية الكاملة،

فهذا قرار مصيري واستراتيجي بالنسبة للدولة التركية، لأنها جزء من أوروبا، ومن حقها أن تكون عضوا فيه، بعد وفائها بكافة مستلزمات العضوية، وأوروبا بحاجة لتركيا أكثر من حاجة تركيا لأوروبا، ومع مصلحة تركيا حل مشاكلها مع اوروبا وهي عضو في الاتحاد الأوروبي، مثل الخلافات القائمة مع اليونان حول قبرص أو غيرها، فهل تستطيع تركيا التوفيق بين علاقاتها مع روسيا وحلف الناتو معاً؟ إن التحدي الآخر الذي يمكن ان تواجهه الحكومة التركية هو مدى إمكانية تحكم الحكومة التركية بالنوايا والتطلعات التي يسعى حلف الناتو إلى مطالبة الجيش التركي بها، فوضع الجيش التركي يرتبط بالحكومة التركية في علاقات جديدة غير التي كانت أيام الحرب الباردة قبل عقدين من الزمان، لأن مسار القاطرة السياسية في تركيا اختلف عن السابق، فأصبحت الحكومة المنتخبة من الشعب هي من يقود قاطرة المؤسسة العسكرية، وليس كما كان الحال قبل عقدين من الزمن، حيث كانت قاطرة الجيش هي من يقود الحكومة وكافة مؤسسات الدولة العسكرية والمدنية، بما فيها رئيس الجمهورية نفسه، بعد ان أصبح رئيسا منتخباً من الشعب مباشرة، وليس عسكريا متقاعداً ينتظر التعليمات من قيادة الأركان العسكرية.

إن التعديلات الدستورية الأخيرة في تركيا حددت مسؤوليات الجيش التركي في حماية الحدود التركية الخارجية، وقيادة مجلس الأمن القومي التركي الحالية أصبحت مدنية وعسكرية، وليست عسكرية فقط كما كان الحال في الماضي، ورئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ووزير الدفاع والمخابرات الوطنية هم القيادة الفعلية لهذا المجلس، ولذلك نجح حزب العدالة والتنمية في تعديلاته الدستورية الأخيرة، من جعل الجيش التركي حارساً للديمقراطية التركية، أي حارساً لقرار الحكومة وليس معترضاً عليها، وقرار الحكومة معني ان يبحث عن مصالح تركيا الاقتصادية والسياسية والأمنية، وليس جانباً واحداً منها فقط هو الجانب الأمني والعسكري فقط، او التزاماته العسكرية مع الناتو من غير أخذ مستقبل الاقتصاد التركي بعين الاعتبار، فأي مغامرة أو ضغوط لحلف الناتو على روسيا، سواء بضغوط اقتصادية أو تحركات عسكرية مثل تسليح أوكرانيا، أو أي نزاع مسلح حول القرم ينبغي أن يأخذ بالاعتبار مستقبل الاقتصاد التركي الذي يتطلع إلى التقدم والازدهار وليس التراجع بسبب ضغوط يناور بها الغرب ضغوطاً على روسيا.

عن الكاتب

محمد زاهد جول

كاتب وباحث تركي مهتم بالسياسة التركية والعربية والحركات الإسلامية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس