تحدّثت القيادات الروسية أكثر من مرّة عن وجود خطط لفلاديمير بوتين باتجاه إنهاء النزاع في سوريا. تريد موسكو ترتيب طاولة إقليمية واسعة وآليّة تشمل الدول المنخرطة في الأزمة، تتولّى مهمّة التفاهم وتقديم الضمانات اللازمة لتوفير الحلّ في سوريا. لكنّ ما يريده الكرملين قبل ذلك تثبيت دوره الفاعل والمؤثّر في رسم خارطة التفاهمات وترتيب الأولويّات الواجب اعتمادها بناء على ما يقوله هو. تحدّث بوتين مراراً عن ضرورة التحرّك بأسرع ما يمكن نحو العمل الجادّ من أجل انتقال سوريا إلى الحياة السلميّة بعدما "ساهمت الجهود الروسيّة في تحرير حوالي 95% من الأراضي السورية"، كما قال. ومن جهته، أشار وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف دائماً إلى ضمانات لا بدّ منها مثل "انسحاب القوات الأجنبية وقبول وحدة الأراضي السورية وقرار التنسيق والتعاون المشترك ضدّ الجماعات الإرهابية والغطاء الدولي الداعم لإعادة بناء ما تهدّم".

حوار قسد والنصرة برعاية أميركية؟
بالمقابل تشهد مناطق الشمال السوري منذ أسابيع تصعيداً عسكرياً ميدانياً ازدادت حدّته مع انتهاء الاجتماعات العشرين لأستانة ولقاء الطاولة الرباعية على هامش القمّة. ووسط تبادل الاتّهامات في شأن أسباب التفجير، كان التركيز على مشاركة المقاتلات الروسية في الهجمات بعد توقّف طويل، وقد اتّهمت قوى المعارضة السورية القوات الروسية "بارتكاب خروقات لقرارَيْ مجلس الأمن 2139 و2254 القاضيَيْن بوقف الهجمات العشوائية، وانتهاك قواعد القانون الدولي الإنساني في مناطق جسر الشغور مع هجمات ترقى إلى جريمة حرب".
اللافت في هذا السياق هو أنّ هذا الانفجار الأمنيّ يأتي بعد ساعات على إعلان النظام السوري تعرُّض مناطق في ريفَيْ اللاذقية وحماة لهجمات بالطائرات المسيَّرة عن بعد، فيما تحليلات روسيّة تتحدّث عن اتصالات أمنيّة بعيدة عن الأعين تجري بين قيادات "قسد" ومجموعات جبهة النصرة بتوصية أميركية على طريق التقريب بين الطرفين في مواجهة سيناريو الحوار الرباعي واحتمال حدوث تقارب بين أنقرة ودمشق قد ينعكس سلباً على نفوذهما ومصالحهما الميدانية والسياسية.

يتعارض التصعيد العسكري الميداني الأخير في إدلب وجوارها مع مضمون بيانات وتصريحات الأطراف المشاركة في "أستانة 20" وهدف الطاولة الرباعية التي حضرها ممثّل النظام في دمشق. المعلن هو مواصلة فتح الأبواب أمام الحوار السياسي المباشر بين أنقرة ودمشق برعاية روسية - إيرانية. لكنّ ما يجري على جبهات شمال غرب سوريا يشير إلى ما هو مغاير وما يحمل معه أكثر من تساؤل عمّا يدور لناحية التوقيت والاحتمالات:
1- تصعيد يجري في مناطق خفض التصعيد الذي من المفترض أنّ الدول الضامنة في أستانة قد رعته وثبّتته منذ سنوات وقرّرت الانتقال بالأمور إلى مرحلة سياسية جديدة من الحلحلة في سوريا بموافقة أنقرة ودمشق.
2- خروقات تتعارض مع تفاهمات تركيّة – روسية تمّت قبل 3 سنوات في شأن انسحابات وتغيير مواقع وترسيم حدود الجبهات وإعادة التموضع الميداني في إدلب وجوارها.
3- تزامن التفجير على جبهات غرب الفرات مع التصعيد على جبهات الشرق والعمليات الخاطفة التي تنفّذها أجهزة الاستخبارات التركيّة في عمق مناطق نفوذ "قسد" مستهدفة قيادات وكوادر بارزة في صفوف حزب العمّال الكردستاني.
4- إعلان "مجلس سوريا الديمقراطية" (مسد) وهيئة التنسيق الوطنية السورية وثيقة تفاهم جرى بموجبها الاتفاق على خارطة طريق لحلّ الأزمة في سوريا، "من خلال التأسيس لبناء جبهة وطنية ديمقراطية عريضة لقوى الثورة والمعارضة السورية تتبنّى مشروع التغيير الوطني الديمقراطي والتحوُّل من الاستبداد إلى الديمقراطية"، بما يمنحها كما ترى، "تحقيق الانتقال السياسي وبناء الدولة الديمقراطية التعدّدية ذات النظام اللامركزي الذي يتوافق عليه السوريون في دستور المستقبل وعلى كامل الجغرافيا السورية".
5- إعلان "الإدارة الذاتية" في شمال شرقي سوريا مخاوفها من خطوات "التقارب التركي مع النظام السوري"، مشيرة إلى أنّ مسار التقارب بين الطرفين "دخل مرحلة خطيرة بهدف تمرير صفقات متبادلة على حساب مصلحة الشعب السوري".
6- الكشف من العاصمة الفرنسية باريس قبل أيام عن ولادة مؤتمر من تنظيم مبادرة "مدنية" تحت عنوان "الأحقيّة السياسية للفضاء المدني السوري بهدف طرح بدائل لكيفية سير الأمور في ما يتعلّق بمستقبل سورية، بما يتناسب مع قيم الديمقراطية والعدالة والمساءلة والوصول إلى الحقوق في مواجهة التطبيع مع النظام"، بمشاركة 180 منظّمة مجتمع مدني سوريّة.
7- تصريحات وزيرة الخارجية الفرنسية كاثرين كولونا خلال مؤتمر صحافي مع نظيرها القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني في العاصمة القطرية الدوحة، التي قالت فيها إنّ من غير المفهوم إعادة نظام الأسد إلى الجامعة العربية من دون تقديمه أيّ التزامات، وهو ما يستدعي طرح سؤال عن وجود علاقة بين اجتماع هيئات المجتمع المدني السورية الأخير في العاصمة الفرنسية باريس وبين المحادثات القطرية الفرنسية الأخيرة.

"خريطة طريق" للتطبيع جاهزة
أعلن المبعوث الخاص للرئيس الروسي لشؤون الشرق الأوسط ودول إفريقيا، ميخائيل بوغدانوف، أنّ مسوّدة "خريطة طريق" للتطبيع بين النظام السوري وتركيا باتت جاهزة. وتقرّر في أعقاب اجتماع موسكو الرباعي في العاشر من أيار الماضي تكليف نواب وزراء خارجية البلدان المشاركة إعداد خريطة طريق لتطبيع العلاقات بين النظام السوري وتركيا، بالتنسيق مع وزارات الدفاع والاستخبارات للدول الأربع. لكن يخلط البعض بين جهود التطبيع الحاصل بين أنقرة ودمشق وبين مسألة الحلحلة في ملفّ الأزمة السورية. فأولويّات الثلاثي الروسي والإيراني والسوري هي إقناع تركيا بالانفتاح على النظام في دمشق، بينما أولويّات تركيا هي وضع مسألة التطبيع مادّةً في سلّة تفاهمات سياسية وأمنيّة مع بشار الأسد.هنا يدخل على الخطّ ما يدور من حديث عن خطّة بديلة غربية إقليمية تحوّل مسار الملفّ باتجاه أولويّات مكافحة الإرهاب، وعودة اللاجئين السوريين إلى المنطقة الآمنة في الشمال الغربي، لكنّها تتمسّك بالعقوبات على النظام ومنعه من الهيمنة على شمال شرق سوريا، حيث تحظى "قسد" بالغطاء العسكري والسياسي، مقابل إبقاء جبهة النصرة تحت الحماية في بقعة جغرافية ضيّقة خارج نفوذ أيّ قوّة محلّية أو إقليمية وتفعيل بيئة اقتصادية جديدة بين الغرب والشرق في الشمال السوري تحت الرعاية الإقليمية وإلزام الأسد بقبول فكرة التحاصص في إطار نظام إداري وسياسي لامركزي يقلّل من نفوذه في الشمال.
إذاً ما يُقلق البعض هو احتمال أن تهدف إعادة تحريك الجبهات في الشمال السوري إلى الالتفاف على تفاهمات الطاولة الرباعية التي لم يظهر منها إلى العلن أيّ جديد بعد، أو أن يكون هذا التحريك حلقة جديدة من الردّ الأميركي الأوروبي على الخطة الروسيّة التي قد تدعمها أنقرة وطهران وبعض العواصم الإقليمية الفاعلة في المشهد السوري، وأن تكون مجموعات "هيئة تحرير الشام" في إدلب وجوارها هي العقبة، خصوصاً أنّها تعتبر العمليات التركيّة في شرق الفرات بين مؤشّرات تزايد التنسيق الأمنيّ ضمن المسار الرباعي، وهو ما يعزّز احتمالية انتقال التنسيق إلى شمال غربي سوريا وإشعال الجبهات ضدّها في القريب العاجل. فمن الذي سيقبل بجبهة النصرة ودورها ونفوذها هناك، وينسّق معها في مواجهة ترتيبات سوريّة وإقليمية جديدة، خصوصاً بعد اختلال المعادلة التي كانت تضع "النصرة" و"قسد" على مسافة واحدة؟
قد نتّفق مع الدبلوماسي الروسي المشارك بشكل فعّال في الملفّ السوري وسفير موسكو في دمشق ألكسندر يفيموف على أنّ انتقال سوريا وتركيا إلى حوار مباشر بعد أكثر من 10 سنوات من تجميد العلاقات الثنائية يُعدُّ بحدّ ذاته نجاحاً للطرفين، وهو ما يمنح موسكو فرص الوصول إلى ما تريد. لكنّ حقيقة الواقع القائم هناك تقول أيضاً إنّه لا يمكن لأيّ خطة من جانب واحد في سوريا أن تتقدّم من دون قبول التوازنات المحلية والإقليمية التي تتعامل مع ملفّ الأزمة في سوريا. وقد يكون هدف موسكو الأوّل والأخير من الإصرار على الإمساك بالكثير من خيوط اللعبة في سوريا هو إلزام العديد من اللاعبين الإقليميين المؤثّرين في الملفّ بالبقاء إلى جانبها، عند بحث أيّ خطة روسيّة تتعلّق بسوريا، أكثر منه إلزام واشنطن المتشدّدة في مواقفها وطروحاتها بالتفاوض معها. لكنّ السؤال الآخر هو: هل تقبل أميركا بذلك؟ وهل الغرب على استعداد لمناقشة إعادة تأهيل بشار الأسد وتفعيل دوره السياسي في سوريا الجديدة؟ وهل يحمل معه التقارب الأخير بين جامعة الدول العربية والنظام في سوريا بالضرورة قبول موسكو وواشنطن بما يجري ويقود إلى تحوُّل في المواقف العربية لإرضاء بشار الأسد؟

يتطلّب الحلّ في سوريا تعاون أكثر من لاعب محلّي وإقليمي. لن تكون التسوية حكراً على طرف دون طرف آخر. من يتصلّب في موقف إزاحة الآخرين فعليه أن يتحمّل مسؤولية شكل ونتائج خارطة الطريق التي يقدّمها أو يحاول أن يفرضها على السوريين وبقيّة اللاعبين المؤثّرين في الملفّ.

عن الكاتب

د. سمير صالحة

البرفسور الدكتور سمير صالحة هو أكاديمي تركي والعميد المؤسس لكلية القانون في جامعة غازي عنتاب وأستاذ مادتي القانون الدولي العام والعلاقات الدولية في جامعة كوجالي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس