سمير العركي - الجزيرة مباشر

على مدار ساعات طويلة حبس العالم أنفاسه انتظارا لما ستسفر عنه الأحداث المتصاعدة في روسيا.

فقوات “فاغنر” غير النظامية تعلن التمرد، وتسيطر على مبنى وزارة الدفاع في “روستوف” ومن هناك يبث زعيمها يفيجيني بريغوجين رسالة مصورة يؤكد فيها ولاءه للرئيس فلاديمير بوتين، وأن خصومته فقط مع وزير الدفاع سيرغي شويغو، ورئيس الأركان فاليري غيراسيموف، متهما إياهما بسوء إدارة المعركة في أوكرانيا، ومهاجمة قواته.

كما أعلن بريغوجين تنظيم ما أسماه “مسيرة العدالة” في اتجاه موسكو لمواجهة خصومه في وزارة الدفاع، وعلى إثر ذلك تحرك جزء من قواته صوب العاصمة الروسية.

بوتين لم يلبث طويلا، حتى أطل على الشعب الروسي في كلمة متلفزة، أكد فيها صعوبة الوضع في مقاطعة روستوف، ووعد بالدفاع عنها بكل ما في وسعه كرئيس للبلاد. وقال: إن روسيا تواجه تمردا مسلحا وأن الرد على العصيان والتمرد سيكون صارما وقاسيا، متوعدا من أسماهم بالمتمردين والخونة (في إشارة إلى فاغنر دون تسميتها صراحة) بالعقاب، واتهم بوتين أطرافا لم يسمها بمحاولة دفع البلاد نحو الفوضى والحرب الأهلية.

عقب كلمة بوتين أصدرت الجهات القضائية لوائح اتهام في حق بريغوجين وأعضاء فاغنر، التي استمرت في التقدم صوب العاصمة، تزامنا مع ورود أنباء بحدوث مواجهات مع القوات النظامية أفضت إلى تحطم ما يقرب من خمس مروحيات ومقتل عدد من العسكريين النظاميين.

لكن تحركات الوساطة والتهدئة التي قادها رئيس بيلاروسيا، ألكسندر لوكاشينكو، نجحت في احتواء التمرد إثر اتفاق نص على إسقاط التهم عن زعيم “فاغنر” والسماح له بمغادرة البلاد إلى بيلاروسيا والاستقرار فيها، ومنح المقاتلين الراغبين في مواصلة العمل من خلال توقيع عقود مع وزارة الدفاع الروسية، أما بقية المقاتلين فيمكنهم تسليم أسلحتهم والاستمرار في الحياة المدنية.

إسدال الستار على الأزمة لا يعني انتهاءها، فروسيا الدولة والنظام، تضررت صورتها وهيبتها بشكل واضح.

منذ اللحظات الأولى للأزمة انتشرت سردية على مواقع التواصل، مفادها أن ما يحدث ليس سوى مسرحية من إعداد وإدارة بوتين التخلص من جهة ما، حيث افترقت الرواية بين قائل يؤكد أنه يريد إقالة قيادات وزارة الدفاع بعد الإخفاق الكبير في الحرب الأوكرانية، وآخر يقول: بل المقصود بالإقالة قائد قوات “فاغنر” نفسه!

وكأن بوتين بكل حضوره وسطوته وسيطرته يحتاج إلى إهانة السلطة التي يقف على رأسها، والدولة التي يحكمها من أجل إقالات لا تحتاج منه سوى دقائق معدودات.

كشف التمرد عن أزمات عميقة تعاني منها الدولة الروسية، فوجود جيش غير نظامي في موازاة القوات النظامية الرسمية له تداعياته الخطيرة التي تفجرت أمس بشكل واضح صريح.

والشيء بالشيء يذكر فقد حذر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، منذ أربع سنوات، نظيره الروسي من تداعيات وجود هذه القوات غير النظامية.

فعلى مدار أشهر لم يكف قائد “فاغنر” بريغوجين من توجيه النقد اللاذع لوزير الدفاع ومساعديه بشأن إدارة الحرب في أوكرانيا، محملا إياهم مسؤولية مقتل ما لا يقل عن ألف جندي يوميا في المعارك، وعدم امتلاك الشجاعة الكافية لاقتحام العاصمة الأوكرانية كييف في الأيام الأولى للمعارك بعد محاصرتها، كما حملهم مسؤولية الانسحاب من عدد من البلدات والمدن بعد السيطرة عليها.

الهجوم المتكرر من بريغوجين نال من سمعة العسكرية الروسية، خاصة وأنها صادرة من شخصية عسكرية تخوض القتال جنبا إلى جنب مع القوات النظامية، ما يجعل لانتقاداته صدى مقبولا لدى الرأي العام الداخلي.

كذلك كشفت الأزمة عن تصدعات أمنية واضحة سمحت لقوات لا يزيد قوامها عن 25 ألف مقاتل بالسيطرة على مدينة روستوف وتحرك جزء منها صوب موسكو حتى مسافة مائتي كيلومتر فقط.

هذه التصدعات سيكون على بوتين البحث عن أسبابها وسبل معالجتها، إذ كيف تعجز الأجهزة الأمنية الروسية عن كشف استعدادات فاغنر قبل فترة من التمرد، في وقت أعلنت فيه صحيفة “واشنطن بوست” أن الاستخبارات الأمريكية رصدت مؤشرات على عزم “فاغنر” تنفيذ تحرك ما ضد القيادة الروسية، وأنها أحاطت البيت الأبيض علما باحتمال وقوع الاضطرابات قبل يوم من حدوثها.

في الحديث عن الأزمات الكاشفة لابد وأن نذكر كيف ترك سلوك بريغوجين الملقب بـ “طباخ بوتين” ويوصف بصديقه الحميم، كيف ترك “الملك عاريا” بإعلانه التمرد، محدثا شرخا في هيبة بوتين وصورته، بدا واضحا على قسمات وجهه وهو يلقى الكلمة المتلفزة ظهيرة السبت الماضي.

لذا فإن ما فعل بوتين حتى الآن ما هو إلا تبريد للأزمة، ريثما يرتب أوراقه انطلاقا إلى حلول جذرية تجنب روسيا أي سيناريو مستقبلي يدخلها في الفوضى ويعرضها للانقسام. فبحسب تقديرات وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن فإن “الاضطرابات لم تنته بعد على الأرجح وقد تستغرق أسابيع أو شهورا.”

المسار الأول: إصلاح الأوضاع داخل وزارة الدفاع، وقد يكون عزل الوزير شويغو وبعض القيادات خيارا مطروحا لكنه قد يتأخر بعض الشئ، حتى لا يبدو وكأنه استجابة لإملاءات زعيم فاغنر. فسير المعارك في أوكرانيا يعكس إخفاقات وخسائر واضحة لم يعد هناك من سبيل إلى إخفائها.

المسار الثاني: معالجة الإخفاق الأمني الواضح الذي فشل في التنبؤ بتحركات فاغنر، ولم يعمد إلى استباق ذلك التحرك بتدابير إجهاضية، في وقت تنبأت بها الاستخبارات الأمريكية كما أسلفنا القول.

المسار الثالث: العمل على إعادة ترميم صورة السلطة “الجريحة” شعبيا وإعلاميا، واستعادة بوتين لهيبته “المنقوصة”

هذه المسارات ستعمل على التخفيف من تداعيات الأزمة، إذ يحتاج التعافي التام إلى مزيد من الوقت، فروسيا كانت على أعتاب أزمة هي الأشد منذ تفكك الاتحاد السوفيتي.

عن الكاتب

سمير العركي

كاتب وصحفي مصري


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس