ياسين أقطاي - الجزيرة مباشر

“ها هي باريس تحترق مرة أخرى”. يبدو أن الحديث عن باريس بهذا الوصف كان مصيرها في الآونة الأخيرة. حيث تحمل الاحتجاجات المتكررة بانتظام الآن صورة باريس المحترقة إلى العالم، وكانت تلك الاحتجاجات قد اندلعت شرارتها في ضواحي فرنسا منذ قرابة خمس سنوات، ثم امتدت إلى فرنسا كلها على شكل موجات تتكرر من حين لآخر.

ولهذه الاحتجاجات أسباب وديناميكيات اجتماعية وعواقب سياسية تتخطى حدود الدول والقارات، كما أظهرت إشارات جديدة داخل ما يسمى بـ”الحركات الاجتماعية الجديدة” مثل حركة “السترات الصفر” التي بدأ احتجاجها عام 2018 في الأساس تنديدًا بسياسات الحكومة المتعلقة بارتفاع أسعار الوقود، وتحولت إلى ثورة شعبية عارمة انضم إليها أشخاص من الفئات والأطياف جميعها من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ووفقًا لاستطلاعات الرأي أنهم حصلوا على دعم 72% من الناس، ومن ناحية أخرى ذكرت الاستطلاعات نفسها أن 85% من المشاركين ضد العنف. أي أن الشعب الفرنسي يحب الاحتجاجات، لكنه في الوقت ذاته لا يريد العنف.

ومع ذلك يبدو أن الحركات الاحتجاجية مقدر لها أن تتحول نحو العنف. ربما لا يرى الجمهور أنفسهم مسؤولين عن هذا العنف، ويلقون بالمسؤولية على الشرطة. رغم أن الغضب الشعبي المواجه لعنف الشرطة يظهر في شكل عمليات تخريب بلا هدف ودون تخطيط من جانب المتظاهرين، فقد كانت البداية لحركة دون زعيم، وكان هدفها النهائي بالطبع هو إجبار ماكرون على الاستقالة، ولم تكن لهم رؤية سياسية في الأفق، واستمرت على هذا المنوال بشكل متقطع مع استمرار إدارة ماكرون.

حتى صارت فرنسا بلد الاحتجاجات، والاحتجاجات هي إحدى الطرائق التي يشارك بها الشعب في الحكم، لكنها مشاركة الغضب والتدمير، وعلى أي حال فإنها تدل على أن هناك عدم توافق وانفصالًا خطيرًا بين الدولة والشعب.

وهذه المرة اندلعت المظاهرات على إثر مقتل المواطن المنحدر من أصول جزائرية البالغ من العمر 17 عامًا على أيدي الشرطة بالرصاص في ضاحية “نانتير” في باريس لعدم امتثاله لطلب الشرطة بالتوقف، وسرعان ما انتشرت المظاهرات خارج العاصمة في بوردو وليون وليل ومرسيليا وحتى بروكسل.

وقد وصلت الكراهية في فرنسا للأجانب والعنصرية الفرنسية إلى ذروتها، تمت مقارنة هذه الاحتجاجات الغاضبة من المغاربة بثوران الغضب الذي حدث عام 2005، وهناك انزعاج متزايد من سلوك الشرطة تجاه العرب من أصل مغاربي. حيث بدأ توقيف الأشخاص وطلب مستندات هوياتهم، ويتم معاملتهم باستمرار كمجرمين في أوقات وتحت دواعٍ غير منطقية، مما يخلق إحساسًا متزايدًا بالإقصاء والإذلال العنصري للمغاربة، ولذلك فإن اغتيال مثل هذا يمكن أن يكون بمثابة شرارة لتفجير الغضب المتزايد.

وهذا النوع من المعاملة للأفارقة الذين استغلتهم فرنسا لسنوات طويلة، وعرضتهم لجميع أنواع القسوة والقمع والتعذيب هناك وأثناء الاستغلال الفرنسي لأراضيهم أيضًا، تسبب في تزايد الاستياء وتراكمه بصورة خطيرة. علاوة على ذلك فإن الوضع الحالي في فرنسا يثبت أنها لم تتمكن من تبني الأشخاص الذين يعيشون في هذه الأراضي لأجيال عدة، والذين يتنفسون اللغة والثقافة الفرنسية ودمجهم قدر الإمكان في بوتقة الأمة الفرنسية، بل على العكس من ذلك فإن الحقيقة الواضحة هي أن العنصرية التي تمنع الاندماج تتزايد أكثر فأكثر كل يوم، الأمر الذي غالبًا ما يجلب الأمور إلى هذه النقطة.

وهذه في الواقع مشكلة خطيرة يتعين على أوربا بأكملها التعامل معها، فالقنوات التي تدخل من خلالها الديمقراطية الأوربية دون مواجهة خلفيتها التاريخية تضعها في نهاية المطاف وجهًا لوجه مع واقعها الخاص، وضمن هذا الواقع توجد فاتورة قرون من الاستعمار الأوربي، ولذلك فإن دعاوى التنوير وادعاءات الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات تواجه اختبارًا وتحديًا مستمرًا لإثبات حقيقتها.

حيث إن غاية ما وصلت إليه تجربة الديمقراطية والانتخابات في فرنسا هو الظهور الفج للخطاب العنصري، وممارسة اليمين المتطرف ضغوطًا كلامية على الأطراف السياسية جميعها في خطاب الدعاية الانتخابية، ورغم أن زعيمة الحزب اليميني المتطرف “مارين لوبان” لم تفز في الانتخابات، فإنه يتوجب على ماكرون دفع ثمن باهظ لكل تصريحات الفترة الانتخابية، وهذا ليس عائقًا ضئيلًا يستهان به.

وفي الوقت الراهن لا توجد فرصة أمام أي سياسي ليتمكن من التصريح ولو كذبًا بأن العملية التي جعلت فرنسا وطنًا واحدًا هي عملية لا تتعلق بالعِرق الفرنسي، وإنما تتعلق بالتنوير والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان العالمية. هذا لأن العنصرية قد فرضت هيمنتها وقمعت الخطابات الأخرى. رغم أن هيمنة هذه العنصرية ليست بقوة الخطابات غير العنصرية إلا أنها تستغل نقطة ضعفها وتتمكن من السيطرة على الوضع العام، وقد جاء فوز ماكرون على الممارسات العنصرية للوبان بعيدًا عن الرشاوى التي قدمها ماكرون للخطاب العنصري، بل كان فوزًا قائمًا على مراجعاته المتجددة للقيم الإنسانية العالمية رغم انخفاض تلك المراجعات قليلًا في الآونة الأخيرة، ويتمثل المشهد الفرنسي الآن في انخفاض شعبية ماكرون وتراجع انتصاراته بسبب إحجامه عن اتخاذ مواقف أكثر جرأة ضد العنصرية وتنازله عن القيم العالمية، فالجماهير ليست عنصرية ولا عدوانية تجاه الأجانب بالدرجة التي يتصورها بعض السياسيين.

والغضب الذي يظهره المغاربة ضد التهميش وعنف الشرطة هو لا شك غضب له دوافع مختلفة تمامًا عن التظاهرات والاحتجاجات الشعبية المستمرة طوال السنوات الماضية، كما أنه غضب لا يتعارض مع تطلعات باقي أفراد المجتمع، ولو كانت حجج العنصريين في ذلك السياق صحيحة لكان ما نراه الآن في فرنسا ليس صراعًا بين المحتجين والشرطة أو الدولة، بل لكان صراعًا بين شرائح المجتمع المختلفة أي حربًا أهلية.

وفي هذا الموقف الحرج نأمل ألا تصل الأمور إلى نقطة الحرب الأهلية، ولكن يمكننا القول إن العنصرية ليست مشكلة الشعب كما هو شائع، بل إنها مشكلة أقلية والمسؤول الرئيس عن ذلك هم السياسيون ومطامعهم الذين يستثمرون في تلك الأحداث ويحرضون عليها.

عن الكاتب

ياسين أقطاي

قيادي في حزب العدالة والتنمية التركي الحاكم


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس