د. سمير صالحة - أساس ميديا

كنّا ننتظر الخروج من أجواء الانتخابات التركية ومعرفة من الذي سيتابع إدارة ملفّ العلاقات التركية المصرية في الجانب التركي فاتّضح أنّ رجب طيّب إردوغان وفريق عمله هما من سيواصلان تصحيح المسار والإشراف على ترميم ما تضرّر.
تجاوز الرئيسان التركي رجب طيب إردوغان والمصري عبد الفتّاح السيسي فوق مدرّجات ملعب الدوحة من خلال مصافحة شارك الشيخ تميم بن حمد في التخطيط والإعداد لها على هامش المونديال في تشرين الثاني المنصرم، الحاجز النفسي الذي كان يقف حجر عثرة في طريق أوّل لقاء لهما بعد عقد من الجفاء والتباعد والقطيعة السياسية.
لاح في الأفق أوّلاً مسار المحادثات الاستكشافية في أيار وأيلول 2021 بعد اتصالات تمهيدية على مستوى أجهزة الاستخبارات بين البلدين وعبور عمليّة جسّ النبض التي استمرّت لأشهر وسط تكتّم شديد وتعتيم كامل على اسم الوسيط العربي المشجّع والداعم. ثمّ كانت زيارة وزير الخزانة والمالية التركي السابق نور الدين نباتي للقاهرة في حزيران 2022 للمشاركة في الاجتماع السنوي للبنك الإسلامي للتنمية قبل أن نرى مصافحة الدوحة.
كرّت السبحة بعد ذلك في أعقاب كارثة الزلزال الذي ضرب جنوب تركيا في شباط المنصرم. إذ جرى اتصال تعزية وتضامن من قبل الرئيس المصري بنظيره التركي، ثمّ زيارة وزير الخارجية المصري سامح شكري لتركيا في 27 من الشهر نفسه. ثمّ كانت تهنئة العيد والحراك السياسي المتزايد على الخطّ الدبلوماسي في البلدين من خلال زيارة وزير الخارجية الأسبق مولود شاووش أوغلو للقاهرة في 18 آذار تلبية لدعوة من نظيره المصري، وتلتها زيارة جديدة للوزير سامح شكري لتركيا في منتصف نيسان المنصرم.

السيسي في الدوحة
لن يقصد الرئيس التركي العاصمة المصرية، كما كان البعض يمنّي النفس، في أوّل زيارة يقوم بها للعواصم العربية بعد إعادة انتخابه رئيساً. ولم نسمع أنّ إردوغان سيضمّن جولته الخليجية المرتقبة مفاجأة نظيره المصري بهبوط طائرته في مطار القاهرة. يدور الحديث عن زيارة محتملة للرئيس المصري لأنقرة في 27 تموز الجاري، وقد تسبقها زيارة وزير الخارجية التركي الجديد هاقان فيدان للعاصمة المصرية من أجل ترتيب برنامج الزيارة. وتتحدّث وسائل الإعلام عن زيارة سريعة لإردوغان للقاهرة بعد زيارة نظيره المصري. لم يعد مهمّاً من يأتي أوّلاً ما دام رصد وتعداد اللقاءات والزيارات باتا أمراً صعباً في الأشهر الأخيرة.

يحمل اختيار 27 تموز المقبل موعداً لزيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي لأنقرة مدلولاً مهمّاً إذا ما تمّت الزيارة لتركيا في هذا اليوم، كما ذكرت التسريبات الإعلامية. وفي هذا الإطار تساعدنا العودة إلى الأرشيف المصري في التعرّف على أهميّة هذا التاريخ. بالمقابل كشفت بيانات رسمية حديثة أنّ تركيا جاءت في مقدَّم أكثر 10 دول استيراداً للغاز الطبيعي المصري خلال أوّل أربعة أشهر من العام الحالي بقيمة 722.67 مليون دولار، وتلتها اليونان في المركز الثاني بقيمة 253.1 مليون دولار، ثمّ كوريا الجنوبية في المركز الثالث بقيمة 240.7 مليون دولار. أيّهما أهمّ: تاريخ الزيارة أم الانفتاح الاقتصادي والتجاري التركي المصري؟
ينتظر إردوغان والسيسي الكثير خلال المؤتمر الصحافي المشترك أمام العدسات والإعلاميين المتربّصين لطرح أسئلتهم "الخبيثة". ربّما من الأفضل تجاوز هذه العقبة والاكتفاء بالتقاط الصور وببيان سياسي مشترك وترك مواجهة الإعلام لوزيرَي خارجية البلدين.

الإخوان قلقون
ما هو شعور الباقين من قيادات الإخوان في تركيا التي حصلوا على جنسيّتها أو أولئك الذين فضّلوا المغادرة إلى العواصم الأوروبية وهم يتابعون العناق بين إردوغان والسيسي على درجات مدخل المبنى الرئاسي التركي في أنقرة؟ آخر ما قد يلتفت إليه الرجلان أو قد يقلقهما هو مسألة من هذا النوع. فالملفّ أُغلق والمسائل سُوّيت ولم يبقَ إلا الفتات.
وصلت القيادات الأمنية والسياسية في نقاشات ملفّ الإخوان ومصير كوادره في تركيا إلى خواتيمها. تسير المفاوضات في أكثر من اتجاه لحسم النقاط العالقة الباقية، وتتوزّع الخيارات والسيناريوهات المطروحة بين تسليم بعضهم وترحيل آخرين ووقف تجنيس فريق ثالث واحتمالات سحب الجنسية من بعضهم الآخر نتيجة تقديم أوراق غير صحيحة أو إقناع القاهرة ببقاء بعض المنسحبين من العمل السياسي والحزبي والإعلامي.
لعبت قطر دوراً كبيراً في التقريب والمصالحة، وهي تردّ جميل تركيا في أزمة عام 2017. لكنّ هناك عواصم عربية تتقدّمها الرياض وأبو ظبي شجّعت الطرف المصري على تجاوز الخلافات مع أنقرة والعودة إلى طاولة الحوار والتفاهم. كان المحفّز الأهمّ والأكبر في التقاط الصورة الجديدة التي ننتظرها بفارغ الصبر في تركيا أو مصر، لا فرق، هي أجواء المنطقة ومتطلّبات المرحلة وشعار التهدئة الإقليمية وضرورة أن توجد القيادات التركية والمصرية جنباً إلى جنب حول طاولة واحدة خلال البحث عن تسويات لخلافات وأزمات تستدعي الحلّ السريع.وعي السيسي وإردوغان
لو لم يكن هدف السيسي وإردوغان صناعة تفاهمات مصرية تركيّة في ملفّات ثنائية وإقليمية تنتظر هذه اللحظة التاريخية، ولو لم تكن قناعتهما أنّ العديد من القيادات السياسية والقواعد الشعبية في المنطقة تعوّل على هذا التنسيق بين البلدين وتدعمه، ولو لم يدرك كلا الرئيسين أنّ ما يقومان به هو ضخّ دماء جديدة في شرايين العلاقات الثنائية وشبكة التواصل الإقليمي، وهو ما ينتظره الجميع، لَما أخرجا العلاقات من ثلّاجة التباعد وأذابا الجليد وأنهيا الخصومة بحثاً عن رؤية متقاربة لملفّات دائمة السخونة لا بدّ من تبريدها.
بقدر ما تنتظر القاهرة دوراً تركيّاً في ملفّ الأزمة مع إثيوبيا وسياسة تركيّة جديدة "مطمئنة" تأخذ بعين الاعتبار مصالحها في القارّة السمراء واستعداداً تركيّاً لتفهّم ما تقوله العواصم العربية عن طريقة تعامل أنقرة مع قضايا سوريا والعراق وليبيا، تعوّل أنقرة بدورها على دور مصري "مشجّع" في قضايا شائكة تقلقها مثل ملفّ الطاقة وترسيم الحدود البحرية بين البلدين للاستفادة المشتركة من غاز شرق المتوسّط، وأن يواكب ذلك دعمٌ مصري لمسار جديد في ملفّ العلاقات التركية اليونانية والأزمة القبرصية بسبب علاقات القاهرة مع الطرفين. سيكون الهدف التركي المصري الخروج من تحت عباءة الغرب الذي يتلاعب منذ عقود بهذه القضايا ويستخدمها فرصة ووسيلة للإيقاع بين دول المنطقة وتكريس نفوذه واختراقه الدائم لتوازنات الإقليم.
بعد التطبيع الدبلوماسي ستفتح القمّة التركيّة المصرية الطريق باكراً وسريعاً أمام تفعيل خطط وبرامج التعاون السياسي والاقتصادي بعد 3 سنوات من المحادثات والاستعدادات لهذه اللحظة التاريخية.

تريد القيادات التركية رفع مستوى التبادل التجاري مع مصر من 10 إلى 20 مليار دولار خلال السنوات المقبلة. والطريق لا بدّ أن يمرّ عبر تفعيل اتفاقية تجارية بحريّة مشابهة لاتفاقية "الرورو"، ونقل البضائع التركية عبر الموانىء المصرية، وهو ما ستكون له ارتداداته الإيجابية على دول الخليج، وتأثير إيجابي على ملفّات التنسيق والتعاون في مجال الصناعات والتكنولوجيا العسكرية المشتركة بين الجانبين. ولا شكّ أنّ غاز شرق المتوسط هو بين أبرز المحرّكات وراء هذه التحوّلات.
تريد تركيا تسريع الخروج من "العزلة" التي عاشتها بعد خلافها مع عواصم عربية مؤثّرة، وتبحث مصر عن فرص إقليمية حقيقية استراتيجية البعد تفتح الأبواب الاقتصادية والتجارية والإنمائية أمامها. تعكس خطوة تسمية السفيرين صالح موتلو شن وعمرو الحمامي بعد قطيعة عشر سنوات، وهما أفضل من يتابع ملفّ العلاقات ميدانياً، مدى الرغبة في إنجاز الاختراقات السريعة على طريق التقارب والتطبيع.

عن الكاتب

د. سمير صالحة

البرفسور الدكتور سمير صالحة هو أكاديمي تركي والعميد المؤسس لكلية القانون في جامعة غازي عنتاب وأستاذ مادتي القانون الدولي العام والعلاقات الدولية في جامعة كوجالي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس