د. سمير صالحة - العين الإخبارية

يتزايد بشكل ملحوظ عدد الكتابات التركية حول تعقيدات المشهد في حوض البحر الأسود التي تطرح سيناريوهات سوداوية تتحدث عن انفجار عسكري كبير يقترب ويطيح بما تبقى من توازنات حساسة وخيوط تواصل تكاد تنقطع بين اللاعبين المحليين والإقليميين المؤثرين هناك..

فهل اقتربت المواجهة في البحر الأسود؟.. تحاول تركيا جاهدة منذ عقود ومن خلال نقلات سياسية واقتصادية وعسكرية حماية مصالحها مع دول الحوض ومن يحاول التأثير على سياسات ومواقف هذه الدول من جهة. وتجنيب هذه البقعة سيناريوهات الانفجار الواسع بسبب ما سيحمله من ارتدادات ومخاطر على مصالحها ونفوذها الإقليمي من جهة أخرى.

فإلى متى ستتمكن من مواصلة السير بين المطبات التي يريد البعض أن تقع فيها وعلى رأسهم واشنطن التي لن تتراجع خطوة واحدة إلى الوراء في مسألة ضرورة إبقاء خطوط الجبهات التركية الروسية مشتعلة لتحقيق أهدافها في هذا البحر المغلق لولا نافذة المضائق التركية في جنوب غرب البحر؟

تتشارك 6 دول في تقاسم سواحل وثروات البحر الأسود. تصفه روسيا بشريانها الحيوي وصلة وصلها مع الخارج وبوابتها إلى المياه الدافئة عبر المضائق التركية التي كانت العقبة الدائمة أمام تحركها التجاري والعسكري باتجاه الهيمنة على لعبة التوازنات في الحوض.

أضعف انهيار روسيا السوفياتية في أواخر الثمانينيات النفوذ الروسي في البحر الأسود. لكن هذه البقعة المائية لم تفقد موقعها ودورها كمركز تجاذبات جيوسياسية مهددة ومُهدِّدة، وبقيت ساحة دائمة السخونة رغم برودة مياه بحرها والأمواج العالية التي تعوق حركة السياحة والاستجمام أمام سواحلها بالمقارنة مع مياه البحر الأبيض أو البحر الأحمر.

منحت بنود اتفاقية مونترو عام 1936 تركيا فرصة الهيمنة الكاملة على حركة الملاحة في حوض البحر الأسود وحاجة الدول المتشاطئة هناك لموافقتها، باتجاه خروج ودخول سفنها التجارية والعسكرية عبر المضائق التركية في منطقتي البوسفور والدردنيل. استفادت أنقرة لأبعد الحدود من هذه الفرصة بعد قرار التحاقها بحلف شمال الأطلسي عام 1952 لتجنب "التهديد السوفياتي" وتحولها إلى "وسيط" بين روسيا والغرب في لعبة التوازنات الاستراتيجية في الحوض لأكثر من مرة.

نجحت التفاهمات التركية الروسية حول التهدئة في البحر الأسود في توفير هدنة بدأت في عام 1990 واستمرت لعقدين كاملين، حيث كانت موسكو منشغلة بعملية إعادة البناء والتحديث والخروج من ارتدادات تفكك اتحادها وشرذمته. اكتشافات الغاز والهيمنة الروسية الأوكرانية على ملف الغذاء العالمي وحاجة البلدين للدعم التركي كمعبر مائي استراتيجي لا بد منه، حوّل من جديد حديقة موسكو الأمامية وحديقة الأطلسي الخلفية إلى ساحة عسكرية واقتصادية بالغة السخونة.

اختبرت موسكو صبر الغرب أكثر من مرة عبر استفزازه دون رد حقيقي هناك. فعلت ذلك في عام 2008 مع أزمة جورجيا، ثم في عام 2014 مع أوكرانيا في القرم، وبعدها في فبراير/شباط 2022 مجدداً بعد الحرب الروسية الأوكرانية. لكن حلف الناتو الذي قبل تركيا قبل 70 عاماً، هو شريك أيضاً في التصعيد والاستفزاز عبر تمدده في الحوض خلال العقدين الأخيرين مع عضوية رومانيا وبلغاريا أولاً، وطموحه ثانياً لضم بقية الدول المتشاطئة وبينها أوكرانيا، ما أقلق روسيا التي شعرت بأن عزلتها ستكون مكلفة هناك.

بعد أيام فقط على الانسحاب الروسي من اتفاقية الحبوب وإعلان الكرملين مناطق جنوب شرق وشمال غرب البحر الأسود خطوط عبور خطرة على حركة السفن والملاحة، قال الرئيس فولوديمير زيلينسكي: "العالم يعرف أن أمن موانئنا على البحر الأسود هو مفتاح السلام والاستقرار في سوق الغذاء العالمية".

لكن استهداف جسر القرم الواقع تحت السيطرة الروسية قابله رد سريع باستهداف آلاف الأطنان من الحبوب الأوكرانية في مخازنها من خلال هجمات انتقامية.

من الذي سيعطي زيلينسكي ما يريد، وروسيا تقصف هذه المخازن والمستودعات وتريد تدميرها بما فيها غير عابئة بالجهود التركية الهادفة لإعادة الطرفين المتنازعين إلى طاولة تجديد اتفاقيات الحبوب التي انسحبت موسكو منها؟

تغيّر التوازنات لصالح دول حلف الأطلسي مع اقتراب حسم مسألة عضوية السويد بعد فنلندا، يدفع روسيا للبحث عن فرص جديدة لتحسين وضعها الاستراتيجي في مكان ما. النقلة الأهم التي تستطيع أن توجع أمريكا والغرب من خلالها هي تحريك ورقة البحر الأسود ضد الجميع.

كشفت المواقف التركية الأخيرة على هامش قمة فيلنيوس الأطلسية استحالة مواصلة تركيا الصمود وراء استراتيجية الموازنة في علاقاتها بين روسيا والغرب. فهل ترتكب أنقرة ذلك الخطأ الذي تريدها أمريكا أن تقع فيه، وتتخلى عن سياستها الحالية المعتمدة في البحر الأسود التي تقوم على محاولة موازنة العلاقة بين الشريك الروسي والحليف الأمريكي في الحوض؟ وما الجامع بين قرار بوتين إنهاء اتفاقية الحبوب من جهة وتحريك ملف البحر الأسود في مواجهة الغرب من جهة أخرى؟ وهل تعتبر الخطوة الروسية عملية رد على أنقرة بعد انفتاحها الأخير على طلب عضوية السويد في الأطلسي ورسائل الانفتاح على الغرب وقرار العودة إلى الحوار مع الجانب الأمريكي في ملفات خلافية ثنائية وإقليمية كثيرة؟

بالمقابل هناك سيناريوهات كثيرة تقلق تركيا في البحر الأسود بينها:

- تقسيم أوكرانيا إلى شرقية وغربية لإرضاء روسيا وإنهاء الحرب وهو ما يعزز النفوذ الروسي في الحوض على حساب أنقرة.

- توسيع رقعة المعارك مع روسيا في البحر الأسود وهو ما يعني أعباء عسكرية ومادية واقتصادية تتحملها أنقرة التي تعاني من أزمات اقتصادية ومالية داخلية.

- تحريك أمريكا لمعادلة "أمن الحوض من أمن أمريكا القومي". هي قد لا تدخل مع روسيا في مواجهة عسكرية مباشرة كما تفعل مع أوكرانيا، لكنها ستفعل ذلك عبر حلفاء الحوض وعلى رأسهم تركيا.

فرض الهجوم الروسي على أوكرانيا في فبراير/شباط 2022 واقعاً جيوسياسياً جديداً في منطقة البحر الأسود. قرار أنقرة السريع بإغلاق المضائق أمام السفن الحربية الأجنبية بناء على حقها الممنوح لها بموجب اتفاقية مونترو لعام 1936، كان بمثابة تذكير بأهمية تركيا ودورها في لعبة التوازنات القائمة في الحوض. لكن قناعة الكثير من الخبراء والأكاديميين الأتراك تتوقف اليوم عند وجود رغبة غربية في توريط تركيا وروسيا بمواجهة عسكرية مباشرة في البحر الأسود.

الجميع يعرف أيضا أن أي انفجار عسكري بين دول الحوض يعني انفجارا إقليميا ودوليا أوسع لن توقفه سوى كارثة عسكرية كبيرة لا تقل عن كوارث الحروب العالمية.

ذكرنا أحد الإعلاميين الأتراك قبل أيام برواية الروائي الروسي أنطوان تشيخوف التي يقول فيها "إذا كانت هناك بندقية معلقة على الحائط في المشهد الأول من المسرحية فاعلم أنها ستستخدم عاجلا أم آجلا".

 

عن الكاتب

د. سمير صالحة

البرفسور الدكتور سمير صالحة هو أكاديمي تركي والعميد المؤسس لكلية القانون في جامعة غازي عنتاب وأستاذ مادتي القانون الدولي العام والعلاقات الدولية في جامعة كوجالي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس