د. مصطفى المناوي - الجزيرة نت

باعتباري مؤرخا للإمبراطورية العثمانية من أصول فلسطينية ولبنانية، أعتقد حقا أن إبقاء ملايين الأشخاص منفصلين عن ماضيهم القريب، وعن قصص أجدادهم وقراهم وبلداتهم ومدنهم في العالم، لا يقل جرما عما يُرتكب بذريعة حماية تكتل غير مستقر مكون من دول قومية.

تعد الإمبريالية من الموضوعات التي يصعب تناولها في العالم العربي، ذلك أنها كلمة تستحضر العلاقة بزمن الاستعمارين الفرنسي والبريطاني، وتستدعي معها أيضا الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي. ومع ذلك، فإن الطابع الأكثر أصالة والأطول أمدا للحكم الاستعماري -وهو الإمبريالية العثمانية- غالبا ما يُستبعد من المناقشات التاريخية المعاصرة.

وآثرت بعض الدول التي خلفت الإمبراطورية العثمانية تقييم الحكم العثماني في مناهجها الدراسية المحلية على أنه محض "احتلال" عثماني أو تركي، في حين تردد دول أخرى عبارات مجازية مدروسة جيدا عن "الفظائع العثمانية" التي لا تزال تحظى بشعبية على المستوى المحلي لتلك الدول.

وفي مناطق مثل سوريا ولبنان، ربما يكون المسؤول العثماني الأكثر شهرة هو القائد العسكري أحمد جمال باشا، الملقب بـ"السفاح". وقد اتسمت ولايته في زمن الحرب لمحافظات سوريا وبيروت بالعنف السياسي وإعدام السياسيين والمثقفين من العرب العثمانيين، ولا تزال في الذاكرة الشعبية تمثل رمزا للحكم العثماني.

ولكن كما أشار المؤرخ سليم تمارا، فمن الخطأ اختزال "أربعة قرون من السلام النسبي والنشاط الديناميكي إبان العصر العثماني" في "أربع سنوات بائسة من الطغيان الذي ترمز إليه الدكتاتورية العسكرية لأحمد جمال باشا في سوريا".

وفي الواقع، لا يمكن اختزال التاريخ الإمبريالي العثماني في العالم العربي في عبارة "احتلال تركي" أو "استعباد أجنبي". ولا يمكننا أن نتعامل مع هذا التاريخ الممتد لــ400 سنة من عام 1516 إلى عام 1917 بدون الإقرار بحقيقة أنه كان شكلا محليا من أشكال الحكم الإمبريالي.

إن عددا مقدرا من أعضاء الطبقة الحاكمة في عهد الإمبراطورية كانوا في واقع الأمر من العرب العثمانيين، الذين انحدروا من الأجزاء ذات الأغلبية الناطقة بالعربية في الإمبراطورية، مثل آل ملحم في بيروت وآل العظم في دمشق.

لقد كانوا، وكثيرون غيرهم، أعضاء نشطين في المشروع الإمبراطوري العثماني، ممن صمموا وخططوا ونفذوا ودعموا الحكم العثماني في المنطقة وفي أرجاء الإمبراطورية.

وقد شغل آل العظم مناصب رفيعة في المحافظات الشامية التابعة للإمبراطورية -بما في ذلك حاكم سوريا- لعدة أجيال. كما شغل فرع العائلة في إسطنبول، المعروف باسم عظم زاده، مناصب رئيسية في القصر والوزارات والهيئات المختلفة، ولاحقا في البرلمان العثماني في عهد السلطان عبد الحميد الثاني والفترة الدستورية العثمانية الثانية. وكان آل ملحم يعملون وسطاء تجاريين وسياسيين في مدن مثل إسطنبول وبيروت وصوفيا وباريس.

لقد ناضل العديد من العرب العثمانيين حتى النهاية لسن مفهوم أكثر شمولا للمواطنة والمشاركة السياسية النيابية في الإمبراطورية. وقد صح هذا بوجه خاص على الجيل الذي نشأ بعد الإصلاحات المركزية الشاملة في النصف الأول من القرن الـ19، وهي جزء مما يسمى بالمصطلح التركي حقبة "تنظيمات"، [والتي استهدفت تحديث النظم السياسية والاجتماعية في الإمبراطورية].

وشغل بعضهم مناصب تراوحت بين العمل دبلوماسيين أنيط بهم التفاوض نيابة عن السلطان مع نظرائهم الإمبرياليين في أوروبا وروسيا وأفريقيا، إلى العمل مستشارين قاموا بتخطيط وتنفيذ المشاريع الإمبريالية الكبرى، مثل تنفيذ إجراءات الصحة العامة في إسطنبول وبناء خط سكة حديد يربط منطقة الحجاز في شبه الجزيرة العربية بسوريا والعاصمة.

ووضعوا تصورا لمواطنة عثمانية ضمت -في أمثل حالاتها- كافة المجموعات العرقية والدينية المعترف بها رسميا، وشكلا من أشكال الانتماء للإمبراطورية العثمانية يمكن وصفه بأنه فكرة متعددة الثقافات رغم أنها انطوت على احتمال أن تبدو مفارقة تاريخية. لقد كانت رؤية طموحة لم تتحقق أبدا، حيث بدأت القومية العرقية في التأثير على تصور العثمانيين لأنفسهم.

وواصل العديد من العرب العثمانيين النضال المرير من أجل تحقيق هذه الغاية حتى النهاية إلى أن انهار عالمهم مع زوال الإمبراطورية أثناء الحرب العالمية الأولى.

لقد كانت أهوال الحرب في الشرق الأوسط والاحتلال الاستعماري الذي أعقبها، من الأحداث المؤلمة التي جعلت شعوب المنطقة تتدافع لبناء دول قومية برعاية غربية.

وبُنيت دول عندما سيطر الفهم العرقي والديني الضيق للأمة على المنطقة، مما أدى إلى تهميش الهويات المتعددة الثقافات التي كانت هي القاعدة لعدة قرون. وكان على المسؤولين العثمانيين السابقين إعادة اكتشاف أنفسهم كقادة وطنيين عرب أو سوريين أو لبنانيين، إلخ في مواجهة الاستعمار الفرنسي والبريطاني. ومن الأمثلة البارزة على ذلك حقي العظم، الذي شغل -من بين وظائف أخرى داخل الإمبراطورية العثمانية- منصب المفتش العام في وزارة الأوقاف العثمانية؛ وفي الثلاثينيات شغل منصب رئيس وزراء سوريا.

واستوجبت هذه الرؤى للمستقبل العرقي القومي "نسيان" الماضي العثماني القريب. ولم تترك السردية المتخيلة عن "الأمة البدائية" مجالا لحكايات أجدادنا وآبائهم، تلك الأجيال التي عاشت جزءا من حياتها في واقع جيوسياسي مختلف، ولن يُمنحوا أبدا مجالا للاعتراف بخسارة الواقع الوحيد الذي أدركوه.

هذه قصص لأشخاص عاديين مثل بدر دوغان وعبد الغني عثمان؛ أجدادي الذين ولدوا ونشؤوا في بيروت ولكنهم عاشوا حياة متنقلة كحرفيين بين بيروت ودمشق ويافا حتى ظهور الحدود الوطنية إلى حيز الوجود والتي وضعت حدا لهذا النمط العالمي في حياتهم.

كما أن هناك قصصا لعائلات مشهورة مثل بعض آل الخالدي وآل العابد، وهي عائلات سياسية عربية عثمانية بارزة اعتبرت إسطنبول موطنا لها، لكنها حافظت على علاقات عائلية في حلب والقدس ودمشق. وغالبا ما اختُزلت قصصهم وقصص مجتمعاتهم، التي عاشت قرونا في دولة ذات طابع إمبراطوري وبإدراك كوني واسع، في رواية رسمية طابعها اختزالي وإقصائي.

واستُبدل تاريخ هؤلاء الحديث بموجز قصير يصور "التركي" كآخر أجنبي، والثورة العربية على أنها حرب تحرير، والاحتلال الاستعماري الغربي كنتيجة حتمية لتفكك "رجل أوروبا المريض".

إن محو التاريخ هذا يمثل إشكالية كبيرة، إن لم يكن أمرا خطيرا. وباعتباري مؤرخا للإمبراطورية العثمانية من أصول فلسطينية ولبنانية، أعتقد حقا أن إبقاء ملايين الأشخاص منفصلين عن ماضيهم القريب، وعن قصص أجدادهم وقراهم وبلداتهم ومدنهم في العالم، لا يقل جرما عما يُرتكب بذريعة حماية تكتل غير مستقر مكون من دول قومية.

لقد اقتُلعت شعوب المنطقة من واقعها التاريخي وتُركت نهبا لروايات السياسيين والمؤرخين القوميين الكاذبة.

إننا بحاجة إلى استعادة التاريخ العثماني باعتباره تاريخا محليا لسكان الأراضي ذات الأغلبية الناطقة بالعربية، لأننا إذا لم نطالب بالماضي القريب ونفككه، فسيكون من المستحيل أن نفهم حقا المشكلات التي نواجهها اليوم بكل أبعادها الزمانية والمكانية. إن دعوة طلاب التاريخ المحليين للبحث والكتابة وتحليل الواقع العثماني الحديث ليست بأي حال من الأحوال دعوة للعودة إلى بعض الأيام المتخيلة من الماضي الإمبراطوري المجيد أو المتناغم، بل العكس هو الصحيح تماما في واقع الأمر.

إنها دعوة لإماطة اللثام والتصالح مع الماضي الإمبراطوري، الجيد منه والسيئ، بل وكذلك مع الصفحات القبيحة للغاية التي صنعها سكان الأجزاء ذات الأغلبية الناطقة بالعربية في الشرق الأوسط. إن التاريخ الطويل المتراكم لسكان المدن التي ازدهرت خلال الفترة العثمانية -مثل طرابلس وحلب والبصرة- لم تعاد كتابته بعد.

ومن المهم أيضا أن نفهم لماذا، بعد مرور أكثر من 100 عام على نهاية الإمبراطورية، يستمر محو الروابط المتجذرة والحميمة بين الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وجنوب شرق أوروبا، ومن المستفيد من ذلك.

يجب أن نسأل أنفسنا لماذا يتردد الباحثون من البلدان ذات الأغلبية الناطقة بالعربية على أراشيف الإمبراطورية الفرنسية والإنجليزية، ولا يبذلون الوقت أو الموارد لتعلم اللغة العثمانية التركية من أجل الاستفادة من سجلات 4 قرون متاحة بسهولة في أراشيف الإمبراطورية العثمانية في إسطنبول أو في الأراشيف المحلية في عواصم المقاطعات السابقة؟

هل اقتنعنا بالفهم القومي للتاريخ الذي تنتمي فيه اللغة العثمانية-التركية والتراث العثماني إلى التاريخ الوطني التركي وحده؟ وهل ما زلنا ضحية قرن كامل من المصالح السياسية القصيرة النظر التي تنحسر وتنداح مع صعود وهبوط التوترات الإقليمية بين الدول العربية وتركيا؟

إن ملايين السجلات باللغة العثمانية-التركية تنتظر الطلاب من جميع أنحاء العالم ذي الأغلبية الناطقة بالعربية للانغماس في بحث جاد يستخدم مجموعة كاملة من المصادر، بحثا عن صورة جديدة للواقعين المحلي والإمبراطوري في تلك الحقبة.

وأخيرا، فإن أعداد المؤرخين والطلاب (العرب) المتخصصين في دراسة اللغة والتاريخ العثماني -في مدن مثل الدوحة والقاهرة وبيروت ذات مؤسسات التعليم العالي الممتازة- قليلة بشكل مثير للقلق؛ لدرجة أن بعض الجامعات تفتقر تماما لمثل هذه الكوادر.

لقد آن الأوان لكي تشرع مؤسسات التعليم العالي في المنطقة في النظر إلى التاريخ العثماني باعتباره تاريخا محليا، وتقوم بدعم العلماء والطلاب الذين يرغبون في كشف هذا الماضي المهمل وتحليله. لأننا إذا لم نستثمر في التحقق من تاريخنا وكتابته، فإننا بذلك نتخلى عن سرديتنا الخاصة لصالح اهتمامات وأجندات أخرى لا تضع شعوبنا في مركزها.


 **د. مصطفى المناوي أستاذ التاريخ العثماني في جامعة كورنيل 

 

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!