د. سمير صالحة - أساس ميديا

"لتذهب عائشة في عطلتها الصيفية" كانت كلمة السرّ المتّفق عليها بين رئيس الوزراء التركي الأسبق بولنت أجاويد وشريكه في الحكم الإسلامي نجم الدين أربكان، لتحريك القوات التركية باتجاه الجزء الشمالي من قبرص بعد وصول مفاوضات جنيف المتّصلة بالأزمة إلى طريق مسدود في تموز 1974. منذ ذلك التاريخ لم يجد اللاعب المحلّي والإقليمي الحلّ المناسب لإنهاء أزمة الجزيرة وانقسامها وشرذمتها.
حاول البعض في تركيا أن يكون متفائلاً بعد إعلان فوز نيكوس خريستودوليدس بالانتخابات الرئاسية الأخيرة في قبرص اليونانية. لكنّ هذا الحلم الذي كان يعوّل على انفراجة سياسية جديدة في ملفّ الأزمة القبرصية التي مضى عليها 7 عقود تبخّر سريعاً وتبدّد. الشعور نفسه هو الذي يعيشه القبارصة اليونان اليوم بعد عودة القوميين إلى الرئاسة في شمال الجزيرة مع أرسين تتار وهزيمة المنفتحين على التسوية الأوروبية للنزاع مثل الرئيس اليساري الليبرالي محمد علي طلعت.

انتظار الرغبة بالحلّ
الحوار القبرصي - القبرصي مجمّد منذ 6 سنوات تقريباً بعد وصول مفاوضات "مونتانا" برعاية أممية إلى طريق مسدود. لا يريد أطراف النزاع وداعموهم العودة إلى الطاولة قبل بروز مؤشّرات حقيقية إلى الرغبة في الانفتاح والليونة والوصول إلى تفاهمات الحدّ الأدنى. يحتمي القبارصة اليونان بالمجموعة الأوروبية التي قبلت عضويّتهم في عام 2004 باسم كلّ سكّان الجزيرة متجاهلة الوضع السياسي والأمني والاقتصادي هناك. والقبارصة الأتراك متمسّكون باللحمة التاريخية مع أنقرة التي توفّر لهم الحماية والرعاية منذ سنوات طويلة.
استيقظ اللاعب الإنكليزي من سباته قبل أيام، وهو الذي غادر قبرص بعدما استعمرها لعقود حتى أواخر الخمسينيات من القرن الماضي في إطار اتفاقيات لندن وزوريخ التي منحت تركيا وبريطانيا واليونان صفة الدول الضامنة. أعدّ مسوّدة بيان تبنّاها مجلس الأمن الدولي للتنديد بمحاولة إصلاح وترميم طريق قرية "بيلا - يغيتلار" القبرصية التركية الحدودية، وجرّ اللاعب الأممي الموجود هناك من خلال قوّات فصل بين الشطرين منذ حوالي نصف قرن على الخطّ من خلفه في وصف محاولة القبارصة الأتراك شقّ طريق في المنطقة العازلة بين شطرَي جزيرة قبرص بأنّه "اعتداء على عناصر حفظ السلام التابعين للأمم المتّحدة وانتهاك للوضع القائم". يذكّر كلّ ذلك مرّة أخرى بحجم الاصطفافات وسخونة الموقف وانعدام وجود أيّة فرصة حقيقية للحوار والتقارب.

ردّ اعتبار للأمم المتّحدة
ربّما ما يقرّب المشهد أكثر هو اعتبار الأمين العامّ للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، الذي يشيد بجهود تركيا في دعم حلّ الأزمة في أوكرانيا وينسّق معها في اتفاقيات تصدير الحبوب، لكن يذهب باتّجاه مغاير هذه المرّة، أنّ ما حدث "هو اعتداء على حفظة سلام أمميين يعملون في قوّة الأمم المتحدة، من قبل أفراد أمن قبارصة أتراك، وقد يصل إلى درجة الجرائم الخطيرة بموجب القانون الدولي"، ومسارعة أنقرة إلى الردّ بالعيار نفسه من خلال اتّهام مجلس الأمن الدولي بأنّه منفصل عن الواقع ولا يرى المشهد إلا من خلال نظّارات القبارصة اليونان وداعميهم.
دخول الأمم المتحدة بهذا الشكل التصعيدي السريع في موضوع "بيلا" هو محاولة ردّ اعتبار للمنظّمة التي عجزت عن التعامل مع قرار القبارصة الأتراك بدعم من أنقرة قبل عامين إعادة فتح أبواب منطقة مراش/فاروشا السياحية المغلقة منذ عام 1974 أوّلاً، ثمّ فشلت في دفع مسار الأزمة القبرصية نحو الحلحلة ثانياً، وسهّلت ولادة جمهورية شمال قبرص التركية عام 1983 ثالثاً.
ماذا تعني عودة قبرص إلى الواجهة بالنسبة لأطراف النزاع؟ تعني أكثر من شيء:
- أنّ طريق شرق المتوسّط للطاقة ومحاولات التقريب بين الدول المتشاطئة هناك للتنسيق في عمليات التنقيب عن الغاز واستخراجه وتصديره تحتاج إلى تسهيل فتح طريق قرية تركية نائية في منطقة الخطّ الأخضر الفاصل بين شطرَي الجزيرة.
- وأنّ حادثة ترميم وإصلاح طريق عكست حقيقة حجم التباعد بين الأطراف على الرغم من الضوء الأخضر التركي أمام الغرب والتوسعة الأطلسية بإشراك فنلندا والسويد في محاولة للتقارب والانفتاح.
- وأنّ سخونة الأجواء بين شطرَي قبرص تضع أمام أنقرة معضلة استحالة فتح الأبواب الأوروبية لأنّ أزمة الجزيرة بين الشروط الرئيسية التي تضعها المجموعة الأوروبية على طريق عضوية أنقرة في الاتحاد.
- وأنّ زيارة المدمّرة الأميركية روزفلت التابعة للأسطول السادس لميناء لارنكا قبل أيام هي ترجمة للموقف الأميركي في التعامل مع مسألة الجزيرة، من دون أيّ تغيير في أجواء ما سُمّي بمكتوب الرئيس الأميركي جونسون التهديدي في مطلع حزيران 1964، الذي قابله ردّ أنقرة بالعيار والوزن نفسَيهما، وهو ما ساهم في رسم العلاقة التركية الأميركية في شأن العقدة القبرصية.
- وأنّ حلّ الدولتين في إطار كونفدرالي يتمسّك به أتراك الجزيرة لم يتبدّل على الرغم من كلّ الضغوطات الغربية التي منحت القبارصة اليونان فرصاً سياسية واسعة تقوّي الطرح الفدرالي هناك.
بدأت القيادات التركية في الأشهر الأخيرة تحريك الرماد من جديد تحت ملفّ الأزمة القبرصية. ما هو الهدف؟ تذكير العواصم الغربية أنّ أنقرة والقبارصة الأتراك لن يقبلا الانتظار بعد الآن أكثر من ذلك، وأنّ البحث عن بدائل سياسية واقتصادية على طريق الاعتراف بالدولة التركية المعلنة في الشمال سيتمّ تفعيله بعد الآن، لأنّ الانسداد الحاصل لا يمكن أن يكون على حساب الأتراك وحقوقهم المشروعة في الثروات البحرية أمام سواحل الجزيرة.

فشل الأمين العامّ للأمم المتحدة كوفي عنان عام 2004 وهو يحاول توحيد قبرص بسبب قبول الجانب التركي ورفض الجانب اليوناني لخطّته. في العام نفسه اعترف الاتحاد الأوروبي بإدارة جنوب قبرص اليونانية "ممثّلاً شرعياً للجزيرة بأكملها" تحت اسم "جمهورية قبرص"، وضمّها إلى المجموعة. في عام 2014 قال جو بايدن الذي كان يشغل منصب نائب الرئيس الأميركي وقتها، إنّه متفائل بأن يتغلّب القبارصة على خلافاتهم في الجزيرة المقسّمة على أساس عرقي، مشيراً إلى أنّها في موقع جيّد يتيح لها أن تصبح لاعباً أساسياً في سوق الطاقة. وكرّر بايدن أنّ بلاده مستعدّة لتقديم الدعم للقبارصة لإنهاء واحد من أقدم الصراعات وأكثرها تعقيداً، لكنّ كلّ هذه الجهود والمواقف لم تسفر عن نتيجة.

متى تتفاهم تركيا واليونان؟
التفاهمات التركية اليونانية الغربية هي الوسيلة الأهمّ للحلّ، لكنّ الأمور لا تسير بهذا الاتجاه. يترقّب اللاعب الروسي اللحظة المناسبة للانقضاض. وقد وجّه أكثر من رسالة انفتاحية نحو تركيا والقبارصة الأتراك بهذا الخصوص. ستبحث موسكو عن فرص مقايضات وصفقات مع أنقرة، وقد يندم الغرب على تردّده في هذا الملفّ. لماذا فاجأنا رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو بزيارة قبرص اليونانية التي شهدت عقد قمّة ثلاثية في نيقوسيا جمعت إلى جانب نتانياهو، رئيس قبرص اليونانية نيكوس كريستودوليدس ورئيس وزراء اليونان كيرياكوس ميتسوتاكيس؟

الهدف المعلن هو بحث تصدير الغاز عبر اتفاقيات تعني الأطراف الثلاثة. لكنّ ما قد يكون نتانياهو ناقشه مع الطرفين رسائل وعرض خدمات بعد التقارب والتطبيع التركيَّين الإسرائيليَّين والهدنة الغازيّة في شرق المتوسط.
قد يكون موضوع تعبيد عدّة كيلومترات لطريق فرعي في "بيلا" القرية القبرصية النائية وسيلةً لتحريك ملفّ الأزمة القبرصية وتحويل التقارب التركي اليوناني الأخير إلى فرصة تعاون وحلحلة في ملفّ الجزيرة. لكنّ قيادات قبرص اليونانية تتمسّك بمواقفها، كما يبدو، فهي تستقوي بالورقة الأوروبية وتردّد أنّ الأزمة الأخيرة لن تؤثّر سلباً على محاولات استئناف محادثات السلام فحسب، وإنّما على مستقبل العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وتركيا أيضاً.
لا يمكن الفصل بين التصعيد الأخير في قبرص وبين لعبة التوازنات الإقليمية الجديدة التي تدور حول مياه الجزيرة وثرواتها الغازية وموقعها الاستراتيجي بالنسبة لأكثر من قوّة وتكتّل تريد حماية مصالحها الاستراتيجية هناك.

عن الكاتب

د. سمير صالحة

البرفسور الدكتور سمير صالحة هو أكاديمي تركي والعميد المؤسس لكلية القانون في جامعة غازي عنتاب وأستاذ مادتي القانون الدولي العام والعلاقات الدولية في جامعة كوجالي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس