د. سليمان صالح  - الجزيرة نت

"لو كنا نتحدث اليوم عن تركيا جديدة وكبيرة، فإن لجهود نجيب فاضل دورا في ذلك".. بهذه الكلمات تحدث الرئيس التركي عام 2016 عن رجل لم يكن سياسيا بالمعنى المفهوم، ولا كان قائد حركة منظمة، بل كان شاعرا ومفكرا إسلاميا.

جاء نجيب فاضل إلى المشهد التركي في لحظة تاريخية فارقة، فعاند مسار الأحداث، ورسم حلما كان التفكير فيه ممنوعا في ذلك الوقت، وعوقب فتحمل وثابر، فنجح.

ولد نجيب فاضل في 1904، في أسرة ثرية محافظة تمتهن القضاء، وما بلغ شبابه حتى انهارت الخلافة العثمانية، وبدأ فصل جديد غريب على تاريخ الأناضول الممتد، فالدولة الجديدة علمانية، لها موقف من الدين، وهو في تلك اللحظة دون العشرين من العمر ولكنه مر بتجربة تعليمية ثرية، تعلم خلالها القرآن، ودرس في مدرسة فرنسية، فأميركية، فتركية.

ثم التحق بمدرسة الفنون البحرية التي تفجرت خلالها قريحته الشعرية، ثم بقسم الفلسفة بجامعة إسطنبول، ولذلك لم يلبث أن أرسلته الحكومة الجديدة إلى فرنسا ليدرس في "السوربون" بعد عام واحد من قيام الجمهورية، وهناك عاش حياة ترف وجموح انتهت إلى تصوف وتدين.

في حديثه خلال إحياء ذكراه عام 2016، تحدث أردوغان عن تجربة اقترابه الشخصي من الشاعر في السبعينيات من القرن الماضي، وقال عنه إنه لم يكن مفكرا فحسب، بل كان رجل عمل، وأضاف: "إنّه مدرسة أنشأت الآلاف من الشباب، لقد كان وحده منبعا يغترف منه الجيل، بشكل لم يسبقه إليه أحد".

وتابع أردوغان "قد يظن البعض أن نجيب فاضل هو امتداد لتجربة محمد عاكف (وهو شاعر تركي آخر) لكنني أقول إنه لم يكن له سلف قبله، إذ، للأسف، لم تكن لعاكف قاعدة لنشر أفكاره في عهد الجمهورية. أما نجيب فاضل فقد حقق نجاحا عالميا ومحليا في وقت كان كل شيء فيه غريبا، وتمكن من مواصلة هذا النجاح والسعي رغم الهجمات التي وجهت نحوه. وهذا ليس بقليل. نجيب فاضل كنز كبير لتركيا وأبنائها. لقد كان هُنا في وقت لم يكن فيه أحد".

وقال الرئيس التركي إن مجلة الشرق الكبير التي دأب نجيب فاضل على إصدارها طوال حياته الأدبية التي تجاوزت 35 عاما -ومنعت من النشر 15 مرة خلال هذه الفترة- تعد بمثابة مغزلا لنسج الأفكار لجيل تلك الحقبة وأردف: "لم تكن حياته أبدا حديقة ورد بلا شوك، فقد عمل طوال عمره في سبيل تنشئة جنود من المفكرين، وناضل وتعب من أجل هذا الهدف. لقد اختار المشقة والمعاناة بدل الراحة والاطمئنان. لقد دخل هذا الأستاذ والشاعر والكاتب والمفكر السجن 8 مرات وانتقل إلى رحمة الله وهو محكوم عليه أيضا".

سنحمي الإيمان والتاريخ

وإن تكن من قصيدة تصلح مدخلا لفهم شخصية نجيب فاضل وتلخص سيرة حياته، ودوره في تشكيل المشروع الحضاري التركي الحديث فهي تلك التي ألقاها الرئيس التركي في حفل إطلاق جائزة نجيب فاضل عام 2016، وفيها يقول:

نحمي اللغة والتاريخ والإيمان والأخلاق

وإن ضاقت علينا الدنيا ومنع عنا الماء

سنمضي في دروبنا نتتبع النور

حتى وإن وضعوا العثرات في طريقنا

سنمضي بعزة وفخر

من السماء تمتد يد إلهية تمسح دموعنا

ويزهو وطننا في رفعة وبهاء

نمضي قدما.. تتذلل أمامنا كل العقبات

وتتفتح أعيننا على إشراقة نهار؛ لا ظلمة بعده

نواجه بالمقلاع الصواريخ والدبابات

ونُسمع الكون كيف هي البطولة

وإن ضاقت علينا الأرض بما رحبت

ومنع عنا الماء

فإن جدول أمتنا الخصيب يروي كل الدنيا

يوما ما ستغرب شمسنا نحن

ونرحل عن هذه الحياة

لكن أغنية مجدنا ستبقى ترددها الشفاه

جاء نجيب فاضل إلى المشهد التركي في لحظة تاريخية فارقة، فعاند مسار الأحداث، ورسم حلما كان التفكير فيه ممنوعا في ذلك الوقت، وعوقب فتحمل وثابر فنجح

الشجاعة في التعبير عن آمال الأمة

كان فاضل فارسا عنيدا لا يقبل الانحناء أو الهزيمة؛ فوقف بجرأة يدافع عن آمال الأمة التي تواجه موقفا لم تعشه منذ قرون، ويقول عن ذلك الشاعر التركي آردم بايزيد: كانت حاجة الإسلام في تركيا ماسة إلى أن تدافع عنه شخصية أدبية وفكرية كبيرة مثل نجيب فاضل، وكان لسان الحال في ذلك الوقت يشبه حال مسلمي مكة في بداية الدعوة حين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين".

من شجاعته، أنه بشّر شباب تركيا عام 1956 بأن "أيا صوفيا" ستعود مسجدا؛ فقال: "أيها الشباب لا أعرف هل سيكون اليوم أم غدا.. لكن ما أعرفه أن (أيا صوفيا) سيفتح مسجدا من جديد بكل تأكيد.. سيفتح اليوم أو غدا وستكسر أغلاله.. سيفتحه سيلنا الجارف؛ فبعد كل مطر سيل جارف، ومحققا سيفتح هذا السيل (أيا صوفيا)".

وكتب مقالا في مجلة "الشرق الكبير" يقول: "أيا صوفيا، لا تقلق سيحطم أحفاد الفاتح كل الأصنام، ويحولونك إلى مسجد، ويتوضؤون بدموعهم، ويخرون سجدا بين جدرانك، وسيصدح التهليل والتكبير ثانية بين قبابك، وسيكون هذا هو الفتح الثاني، وسيصدح الأذان من جديد، وأصوات التكبير من تلك المآذن الصامتة اليتيمة، وستتوهج شرفات مآذنك بالأنوار تقديسا لله، وشرف نبيه، حتى إن الناس سيظنون أن الفاتح بعث من جديد.. كل هذا سيحدث يا أيا صوفيا، والفتح الثاني سيكون بعثا بعد موت، وهذه الأيام باتت قريبة ربما غدا أو بعد غد".

في ذلك الوقت كان رئيس الوزراء التركي عدنان مندريس في الحكم، وكان فاضل من أبرز الداعمين له وللحزب الديمقراطي الذي يترأسه، وكان مندريس بدوره يقدر الشاعر ويميل إلى آرائه، وكأن أحدهما كان مسؤولا عن رسم الحلم، والآخر عليه أن يجد طرقا لتنفيذه.. تعرض فاضل بسبب القصيدة لتهديد الجهات العلمانية، ولكن رئيس الوزراء دعمه، وفي عام 1959 زاره وأهداه ساعة من الذهب، وكتب معها رسالة تقول: إلى شاعر أيا صوفيا.

ورد فاضل الجميل لمندريس، فبعد الانقلاب على الأخير عام 1960، تضامن معه ودشن حملة لإطلاق سراحه ورفاقه، ولما أعدموه في 1961 كتب عددا من القصائد يرثيه فيها، ويستنكر ظلم سلطات الانقلاب.

ولأجل هذا الموقف سجن فاضل بعضا من الوقت، ولكنها لم تكن المرة الأولى ولا الأخيرة التي يزور فيها السجن بسبب آرائه، فقد دخله عدة مرات في حياته، وكانت المدة والسبب مختلفة في كل مرة، ومن ذلك:

1944: سجن 6 أشهر بسبب كتابه “المسألة الكبرى” الذي اعتبره النظام العلماني هجوما على الدولة والأمة.

1951: سجن 4 أشهر بسبب قصيدته "السكين" التي انتقد فيها الحكومة الديمقراطية والحزب الجمهوري.

1959: سجن 10 أشهر بسبب مقالته "الحقيقة المطلقة" التي دافع فيها عن الإسلام والشريعة وانتقد العلمانية والديمقراطية.

1960: سجن 3 أشهر بسبب تضامنه مع رئيس الوزراء عدنان مندريس والحزب الديمقراطي بعد الانقلاب العسكري.

1962: سجن 6 أشهر بسبب قصيدته "أغنية الموت" التي تحدث فيها عن شوقه للشهادة والجنة.

1964: سجن 3 أشهر بسبب قصيدته "أغنية الحزن" التي تحدث فيها عن ظلم الحكام والحاكمات.

1970: سجن 9 أشهر بسبب قصيدته "أغنية الغضب" التي تحدث فيها عن رفضه للانقلاب العسكري والحكومة المؤقتة.

1974: سجن 3 أشهر بسبب قصيدته "أغنية الفخر" التي تحدث فيها عن حبه للإسلام والأمة.

الأب الروحي للحركة الإسلامية

ويعتبر الدكتور محمد حرب -وهو أحد أهم المتخصصين في التاريخ العثماني- أن نجيب فاضل هو الأب الروحي للحركة الإسلامية التركية، وهو مفكرها، فجميع رموزها كانوا تلامذته، وتأثروا بأفكاره، وأنه في وقت كانت "إسلامية الأتراك" موضع نقاش؛ حيث الجيش يحكم، والنشاط الإسلامي يتراجع، قام فاضل ليلهب المشاعر الإسلامية بشعره ويحيي تلك الحركة.

وفي مشوار جهاده لإحياء المشاعر الإسلامية كان ديوانه "ديوان السلام" من أبرز أعماله، موضوع الديوان هو الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- وجاء في 63 قصيدة -هي عمر الرسول- يؤرخ فيها لسيرته وحتى وفاته.

واعتمد فاضل في مادة ديوانه على ما جاء في كتب السيرة الصحيحة، واستغرقت كتابته 13 عاما بدأها في السجن 1960-1961، بينما كان يواجه الظلم والتعذيب، وانتهى منه عام 1973، وقال عن نيته وراء هذا الكتاب، إنه يريد أن يشعل الصحوة الإسلامية في نفوس الناس ضاربا لهم المثل الأعلى في الجهاد والصبر من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم.

النضال الصحفي

وعلى مدار عمره المديد (توفي عام 1983 عن 79 عاما) كتب نجيب فاضل نحو 100 كتاب في الشعر والأدب والسياسة، كما كان لنضاله الصحفي عبر مجلة "الشرق الكبير" التي أصدرها وحررها، دور كبير في رسم ملامح تركيا المستقبل، ومقاومة الاتجاهات القمعية العلمانية التي كانت سائدة.

وقد اشتهرت هذه المجلة -التي أوقفت بأمر عسكري عام 1971- بنشر قصائد فاضل التي كانت تهز المشاعر، كما أن مقالاتها كانت تسعى لتعزيز الروابط بين تركيا والعالم العربي، والاهتمام بقضايا العالم الإسلامي، وتدافع عن المضطهدين في تركيا وخارجها، وكان من أشهر الكُتاب الذين شاركوه الكتابة فيها: بديع الزمان سعيد النورسي.

أصدر نجيب فاضل مجلة الشرق الكبير عام 1943، وظل ينفق من ماله الخاص عليها، ويعيد إصدارها بعد قرارات التعطيل القضائي المتتالية، متحديا السلطة، ومدافعا عن الإسلام.

وبحلول عام 1981 اعتزل الشاعر الحياة العامة، بعد أن أنهكه المرض، ولكنهم حين سألوه حينذاك عن الموت، قال: "الموت شيء جميل.. فإن لم يكن جميلا، أكان يموت نبي الأنام؟!".

وقد أدرك الموت الشاعر والمفكر الكبير نجيب فاضل في عام 1983، ولكن آثار جهاده ماثلة ومشروعه الإصلاحي يمضي ويحكم تركيا اليوم وغدا…

 

عن الكاتب

سليمان صالح

أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة وعضو مجلس الشعب في برلمان الثورة ووكيل لجنة الثقافة والإعلام بالمجلس 2012


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس