توران قشلاقجي - القدس العربي

خاضت الدولة العثمانية أصعب معاركها إبان الحرب العالمية الأولى على جبهات جناق قلعة في تركيا عام 1915، وكوت العمارة في العراق عام 1916، وغزة في فلسطين عام 1917. ودخلت معارك غزة في التاريخ باعتبارها الحرب الأخيرة للدولة العثمانية. ولم تحقق القوات البريطانية، التي جاءت من العريش وهاجمت غزة في مارس 1917، أي نجاح في أول هجومين لها. وألحق الجنود العثمانيون الهزيمة بالبريطانيين والعناصر الصهيونية في صفوفهم، بالأنفاق التي حفروها. لكن مع الهجوم الثالث الذي جرى في أكتوبر 1917، شنت القوات البريطانية والصهيونية هجمات مكثفة من البر والبحر والجو، وهزمت الجيش العثماني الذي كان يعاني من نقص الذخيرة والتعزيزات، وقامت باحتلال غزة. لم تكن معارك غزة الحرب الأخيرة للدولة العثمانية فحسب، بل إنها تعتبر في الوقت نفسه المكان الذي بدأ فيه انهيارها بالفعل.

وبالإضافة إلى الجنود الأتراك والأكراد والعرب والشركس والألبان والبوشناق، كان هناك أيضا شباب مسلمون من مختلف أنحاء العالم الإسلامي، استجابوا حينها لدعوة الخليفة من أجل الجهاد في صفوف الجيش العثماني، وكان من بينهم، الشاب الهندي عبد الرحمن رياض، الذي شارك مع القوات العثمانية في معارك القدس وغزة، وكان من بين الشخصيات المطلوبة لدى البريطانيين، كما شارك عبد الرحمن رياض (بابر) في وفد الهلال الأحمر الهندي، الذي جاء من الهند عام 1912 بقيادة الدكتور مختار أحمد أنصاري، وبفضل معرفته بالعلوم الإسلامية، تم تعيينه من قبل الدولة العثمانية شيخا لتكية الهنود، التي كانت مخصصة للهنود في القدس بعد حرب البلقان.

مع اندلاع الحرب العالمية الأولى، شارك رياض في المعارك التي جرت على جبهة فلسطين وقام بأنشطة لتشجيع الجهاد بين القبائل العربية، ثم انضم إلى وحدة الجيش الرابع في الدولة العثمانية، التي كانت تدافع عن القدس أثناء هجمات القوات البريطانية على غزة عبر صحراء سيناء. سرعان ما أصبح رياض أحد الشخصيات البارزة في الجيش العثماني بجهوده وحماسه من أجل الدفاع عن القدس، وأعد حملات باللغة الأردية موجهة للجنود الهنود، الذين يقاتلون في الجيش البريطاني ودعاهم للانضمام إلى صفوف العثمانيين. انزعج البريطانيون من حملات رياض النشيطة والمؤثرة فبدأوا إجراءات للقبض عليه، وبعد سقوط القدس في ديسمبر 1917 وتوقيع هدنة مودروس في العام التالي، اضطر رياض للانتقال إلى إسطنبول.

بعد احتلال البريطانيين لإسطنبول في نوفمبر 1918، اعتقلوا رياض، الذي كان يواصل حملاته تجاه الهنود في منطقة «بويوك دارا»، يوم 9 أبريل 1919. وبعد أن سُجن داخل قبو في منطقة «باي أوغلو» لمدة ستة أشهر، تم نقله إلى معسكر اعتقال مخصص للأسرى في السويس، ومن هناك إلى جناق قلعة. ظل رياض قابعا في السجن وسط ظروف قاسية طيلة ثلاث سنوات، ثم نجح في الهرب إبان مرحلة النضال الوطني (حرب الاستقلال) ولجأ إلى الحكومة الوطنية في أنقرة. انخرط رياض في النضال الوطني أيضا، وعانى من مشاكل مالية في السنوات اللاحقة، ولكن في عام 1929، تم تعيينه شيخا لتكية الهنود التي بناها السلطان محمد الفاتح في منطقة الفاتح في إسطنبول وأصبح يتقاضى راتبا، بمساهمة فوزي جاقماق، الذي كان رئيس الأركان العامة في ذلك الوقت، ومحمد جمال المرسيني، أحد قادة الجيش الرابع. درس رياض العلوم الإسلامية في جامعة الأزهر بمصر والمدرسة النعمانية في بغداد، وحصل على إجازة من العديد من العلماء، وأصبح عالما يحظى باحترام كبير. توفي عبد الرحمن رياض في إسطنبول يوم 19 أغسطس 1966، ودُفن في مقبرة «طوب قابي» بمشاركة الآلاف من محبيه.

خلاصة الكلام؛ ضم الجيش العثماني في حروبه الأخيرة العديد من الأبطال المجهولين الذين ضحوا بأرواحهم وكرسوا أنفسهم للأمة الإسلامية، على غرار الشيخ عبد الرحمن رياض. ولكن هؤلاء الأبطال سيصبحون في طي النسيان ما لم نؤلف كتب تاريخنا بأنفسنا. ولا شك في أن أحد الأسباب الرئيسية التي تجعل بعض الناس في حيرة من أمرهم أمام ما يجري في غزة من أبشع الهجمات الوحشية في التاريخ، هو أن تاريخنا غير معروف بشكل دقيق وواضح وصحيح. ولذلك، فإن مهمة التذكير بالأبطال المنسيين في تاريخنا ستظل عبئا على أكتاف المثقفين والمؤرخين في بلداننا.

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس