د. سمير صالحة - أساس ميديا

وفق أرشيف اللقاءات وطاولات الحوار التركي الإماراتي بعد زيارة الرئيس التركي رجب طيب إردوغان الأخيرة لأبو ظبي للمشاركة في أعمال قمّة المناخ العالمية في دبي، فإنّ هذا الحراك السياسي والاقتصادي هو العاشر من نوعه خلال أقلّ من عامين على هذا المستوى الرفيع بين القيادات في البلدين.
ما الذي جرى خلال هذه الفترة الزمنية القصيرة على طريق تحسين العلاقات ورفع مستوى التنسيق السياسي والاقتصادي بين أنقرة وأبو ظبي؟ وكيف وصلنا إلى هذه المرحلة من التحوّل الإيجابي في مسار العلاقات التركية الإماراتية؟
كان هناك أوّلاً أجواء المصالحات بين تركيا والعديد من العواصم العربية، بعد ترتيب شؤون البيت الخليجي والمصالحة التركية مع مصر التي تحوّلت إلى دافع لتحقيق مزيد من الحوار والتهدئة والتوافق الإقليمي، ثمّ الزيارات التركية الإماراتية المكثّفة على أكثر من مستوى وفي أكثر من اتجاه.
بدأ تحرّك تركي قبل 3 سنوات في اتّجاه إعادة تموضع في العلاقة مع دول الخليج، وقابله على الفور ردّ إيجابي منفتح على التطبيع. كانت الإمارات المبادر الخليجي الأوّل بعد التقاط رسائل التحوّل الاستراتيجي في سياسات تركيا العربية والإقليمية. ومهّدت لذلك من خلال زيارة مفاجئة وخاطفة لمستشار الأمن الوطني الإماراتي الشيخ طحنون بن زايد آل نهيان لأنقرة في آب 2021 كانت أوّل اتصال سياسي دبلوماسي رفيع بين البلدين منذ 5 سنوات. ووصفت هذه الخطوة في تركيا بالمبادرة الإماراتية الملعوبة باحتراف بعدما تحوّلت إلى مفتاح حلحلة للكثير من العقد وحدّدت معالم خارطة الطريق الدبلوماسي والسياسي الجديد في العلاقات.
ما نناقشه اليوم هو تفعيل العديد من الأجندات الاقتصادية بين الطرفين. لكنّ الشقّ السياسي والأمني كان حاضراً في كلّ مناسبة لإعادة بناء الثقة والتحضير لمرحلة انتقالية سريعة بين أنقرة وأبو ظبي.
تتمسّك تركيا بتقديم نفسها كشريك خليجي يمكن الاعتماد عليه، نتيجة دورها وقدراتها الاقتصادية والعسكرية. وتستقبل الإمارات هذه الرسائل وتحوّلها إلى فرص تعاون متعدّد الجوانب والأهداف تُوّج بمجموعة من الاتفاقيات التجارية تقُدّر قيمتها بـ50.7 مليار دولار، إضافة إلى الإعلان عن إنشاء لجنة استراتيجية عليا تنسّق مسائل التعاون التجاري والاستثمار الاقتصادي بين البلدين.
الإمارات أول المستثمرين في تركيا
ظلّت الإمارات على الرغم من العديد من الهبّات الباردة والساخنة في العلاقات السياسية مع أنقرة، تحتلّ المرتبة الأولى بين دول الخليج من حيث الاستثمار في تركيا، وباتت الشريك التجاري الأوّل لها في الشرق الأوسط. وصلت أرقام التبادل التجاري بين تركيا والخليج إلى حوالي 29 مليار دولار. للرياض وأبو ظبي وحدهما الثقل الأكبر الذي يصل إلى حوالي 25 مليار دولار. وللإمارات الحصّة الكبرى في هدف رفع أرقام التبادل التجاري مع الخليج إلى 50 مليار دولار خلال الأعوام القليلة المقبلة.
ساهم الكثير من التطوّرات السياسية والأمنيّة الإقليمية في تسريع التطبيع التركي الإماراتي وإطلاق الخطوة الثانية في المسار الجديد. وكان على رأسها ما يجري في قطاع غزة ومسار الحرب في القرم وإعادة رسم الخرائط التجارية العالمية، وبروز قناعة جديدة تقوم على تحويل التنافس الجيوسياسي إلى فرص تعاون ثنائي وإقليمي، مع ولادة مشاريع وخطط إنشاء ممرّات تجارية عابرة للقارّات، بينها الصيني والهندي والعراقي والقوقازي، بإلإضافة إلى خروج تركيا من انتخاباتها البرلمانية والرئاسية بفوز حزب العدالة والتنمية والرئيس إردوغان، وقناعة أبو ظبي بضرورة تسريع الحوار والتواصل السياسي والاقتصادي الذي بدأ بين البلدين. "نولي أهميّة لأن يُجري الفاعلون المؤثّرون في المنطقة محادثات مباشرة، وأن يتفاوضوا ويحلّوا مشكلاتهم معاً"، كما تقول القيادات التركية. و"زيارات تؤسّس لمرحلة جديدة من التعاون والشراكة الاستراتيجية.. وتفاؤل باستقرار وازدهار كبير تقوده الدولتان في المنطقة"، كما تقول القيادات الإماراتية.
هناك ثلاثة مجالات رئيسية من المتوقّع أن تتطوّر فيها العلاقات التركية الإماراتية في السنوات المقبلة: رفع مستوى العلاقات التجارية، التنسيق والتعاون في مجال التصنيع العسكري، عدم إغفال أهمّية التعاون السياسي الإقليمي للمساهمة في حلّ العديد من الأزمات والمشاكل التي تعنيهما في المنطقة.
قناعة القيادات التركية والخليجية اليوم هي أنّ الانفتاح والتعاون المشترك فرصة لترسيخ عمودي وأفقي للعلاقات تفتح الطريق أمام تحوّلات في عمق مسار التنسيق المنظّم والشامل الذي سيكون من الصعب مواجهته وإيقافه عند نقطة معيّنة. ولهذا ليس من الغريب أن يكون الاقتصاد هو القوّة الأساسية المحرّكة لتشكيل العلاقات التركية الإماراتية.

دفع أكثر من عامل داخلي وخارجي أنقرة في اتجاه تبديل مواقفها وسياساتها حيال دول الخليج وتسريع خطوات إعادة فتح قنوات الحوار والتطبيع. لا يمكن هنا تجاهل قرار تفعيل الانعطافة الجديدة في سياسة تركيا الإقليمية، وتحديداً في اتجاه العواصم العربية التي كانت علاقتها قويّة ومتينة معها في إطار التعاون الثنائي والإقليمي.

الزلزال والبصمة الأخوية
وقفة دول الخليج العربي إلى جانب تركيا في محنة الزلزال الذي ضرب جنوب شرق البلاد في شباط المنصرم وارتدادات ذلك على المستوى الشعبي في الداخل التركي، تحوّلت إلى بصمة أخوية في الصميم لا يمكن أن تغيب عن قلوب وعقول الأتراك لعقود طويلة.
كانت القيادات الإماراتية السبّاقة في حلّ ألغاز الرسائل التركية ورموزها. والإعلام التركي يواصل حديثه حتى اليوم عن الأهمية الاستراتيجية للتواصل الحاصل بين أنقرة وأبو ظبي، والزيارات المتبادلة واللقاءات المكثّفة بين القيادات في البلدين. "التقارب التركي الإماراتي يتحوّل إلى خيار استراتيجي يتناغم مع التغيّرات السياسية الإقليمية والدولية"، كما تردّد وسائل الإعلام في الجانبين. وهناك خطوات تنسيق وتعاون تركية إماراتية محسوبة ومدروسة بدقّة لناحية إسدال الستار على الكثير من ملفّات الخلاف والتباعد الثنائي والإقليمي، وضرورة تفعيل تبادل الخدمات في ملفّات حسّاسة تحتاج إلى تهدئة وتبريد الأجواء على أكثر من جبهة شرق أوسطية وإفريقية وشرق متوسطية.

كان إردوغان قبل أسبوعين في الإمارات للمشاركة في أعمال قمّة المناخ العالمية. وبعد ذلك بأسبوع زاراليونان. لا نعرف بالتحديد حجم الدور الذي بذلته القيادة الإماراتية بعيداً عن الأضواء على خطّ أنقرة – أثينا للتقريب بين الطرفين الشريكين لها في الكثير من الملفّات السياسية والاقتصادية. هو تساؤل مشروع يشبه ما سبق أن طُرح حول دور أبو ظبي في تحسّن العلاقات التركية المصرية.

عن الكاتب

د. سمير صالحة

البرفسور الدكتور سمير صالحة هو أكاديمي تركي والعميد المؤسس لكلية القانون في جامعة غازي عنتاب وأستاذ مادتي القانون الدولي العام والعلاقات الدولية في جامعة كوجالي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس