زهراء كرمان - تركيا بوست

الكثير يتساءل هل تركيا علمانية؟ لا أعتقد أن تفسير "العلمانية" في تركيا هو فصل السياسة عن الدين فقط، فمن وجهة نظري قد تعني أيضًا قيام الحكومة أو الدولة بإجبار الأتراك على اعتناق وتبني معتقدٍ أو دينٍ تتبناه الدولة فقط.

وليست طبيعة الدولة "العلمانية" كما هو شائعٌ ونسمعه دائمًا عن تركيا، تلك العلمانية التي عُرفت بأنها تفصل السياسة عن الدين، على العكس بل هي نظامٌ يقمع الدين لتقوم السياسة، ويهدف للسيطرة على جميع مجالات الدين ليجعله تحت حكم الدولة وسيطرتها، بل وتتدخّل في ضوابطه وأحكامه وفق ما تريد.

كُلّنا نعلم كم هو ظالمٌ فرضُ التشريعات والتطبيقات على المسلمين، بل وحتى على غيرهم، إذا أدّت إلى عدم ممارسة الأتراك لطقوسهم الدينية بحريّة.

حتى المآذن التي كانت تصدحُ بصوت الأذان الذي تعوّدنا عليه حوّلت أذانها للغة التركية، وبتنا نسمع المؤذّن بكلماته التركية. غضبنا لذلك ولم يُجدِ نفعًا، حتى قُمعنا باستخدام قوة الدولة المفرطة، وهذا دليلٌ على التدخّل التعسّفي في الأمور الدينية لنا كأتراك.

إلغاء شرعيّة الدين في الدولة

قامت الدولة العلمانية أيضًا، وفي عام 1928 بإلغاء العبارة الدستورية التي تنصّ على أن “دين الدولة هو الإسلام” وأصبح نظامُ البلاد كدولةٍ علمانية حسب الشرائع الدستورية.

وإذا أردنا أن نختصر منذ بداية عام 1930 حينما بدأوا بتنفيذ مشروع "خلقِ دينٍ وطني"، وكان رفع الأذان باللغة التركية جزءًا لا يتجزأ من هذا المشروع.

حاولت الحكومة العلمانية في تركيا أن تنظّم دينًا جديدًا وتُجبر الأتراك عليه بالقوانين، ثم تُضفي عليه صفة الوطنية، ليكون دينًا "وطنيًا" لا "إسلاميًا".

وكانت تلك الدولة العلمانية لا تتدخّل سوى بأمور المسلمين وعبادتهم في وقتٍ تغفل فيه عن الأديان الأخرى!

بغّض النظر عن حرية الأديان، كان يتوجّب على الدولة العلمانية، وينبغي عليها أن تقف مع كلّ الأطراف والأديان بموقفٍ واحد لا تمييز فيه، ولكنها حاولت خلال السنوات أن تؤسّس دينًا جديدًا وفق رغباتها، وأرادت أن تصنعه كما تريد.

الدين الوطني الجديد لتركيا

في عام 1931 عقد أتاتورك اجتماعًا أراد من خلاله تحويل العبادة إلى اللغة التركية، وكان من بين الحاضرين في الاجتماع 9 من حفظة القرآن الكريم، وكانوا آنذاك من مشاهير تركيا.

شرح النائب "رشيد غالب" – أحد الحاضرين في الاجتماع - خطوات تتريك الدين، وأعطى لحفظة القرآن الكريم نسخًا من المصحف مترجمةً للغة التركية، كما وأعطاهم نُسخًا لخطبٍ تركية أيضًا.

وقد اقترح السياسي والكاتب التركي، "اسماعيل حقي بالتاجي أوغلو" (وهو من تَرجم القرآن الكريم إلى اللغة التركية) على الحاضرين إصلاحاتٍ غريبة ومثيرة للدين الإسلامي، وقدّم لأتاتورك حينها مشروعه للعبادة. لم يَطلب من خلال مشروعه تتريك الدين الإسلامي للأتراك فحسب، بل إنه شرّع دينًا جديدًا فيه من كلّ أشكال الغرابة، أصنافٌ وأنواع! حتى أنه اقترح أن تحذف بعض الآيات الكريمة من القران الكريم، وسمح أيضًا بدخول الأتراك إلى المساجد بالأحذية، مستندًا في ذلك إلى ما عليه العادات في الكنائس، وأضاف أيضًا أن يُعبد الله في المسجد مع ألحان وأصوات الموسيقى.

وبعد ذلك الاجتماع، نفّذ القرار في عام 1932، وذلك في مسجد "يره باتان" بإسطنبول، وكان حينها ولأول مرة يُرفعُ فيها الأذان بالتركية. إذ قامت رئاسة الشؤون الدينية في تركيا حينها بإصدار تعميم – فتوى - برفع الأذان في الجوامع باللغة التركية في كلّ أنحاء البلاد.

ردّة فعل الأتراك تجاه الدين الجديد

تناولت صحيفةُ "الجمهورية" هذا التطوّر ونشرت حوله تفصيلاً كاملاً، جاء فيه حينها بأن "أكثر من 40 ألف مسلمٍ تجمّع في مسجد آيا صوفيا، واستمتع الأتراك بسماع الأذان بلغتهم خاشعين وعبدوا ربهم بلغتهم"!

عكست الصحيفة في خبرها حال الإعلام التركي في ذلك الوقت، إذ نقلت صورة التغيير الحاصل من وجهة نظر "العلمانية" ولم تلتفت إلى حال المسلمين الأتراك حينها! فالوجه الآخر للحقيقة لم يكن كما وصفته الصحيفة، بل تجمّع المسلمون الأتراك، وتظاهروا، واحتشدوا في الميادين احتجاجًا على التغيير الحاصل في عبادتهم وتتريك الأذان.

تغافلت الصحيفة، وكذا الإعلام التركي، والعالمي، عن أكبر ردّة فعلٍ تجاه التدخّل والتغيير في الدين الإسلامي في تركيا، وذلك في مدينة بورصة أكبر معقل للمعارضين لقرار تتريك الأذان، اذ احتشدوا حينها في ساحة المسجد الكبير في المدينة، وهو ما اضطّر أتاتورك لأن يقطع زيارته إلى إحدى الدول وجاء إلى مدينة بورصة ونشر تعميمًا ذكر فيه بأن الموضوع ليس متعلقًا بالدِّين بل متعلقٌ بلغة "الدين"!

في ذلك الوقت انتشرت الشائعات في عموم تركيا تقول بأنه ستتم معاقبة المؤذّنين الذين لا يرفعون الأذان باللّغة التركية، بل وسيُحكم عليهم بالإعدام.

في ظلّ هذه الأحداث والرعب السائر في نفوس المؤذّنين والمسلمين من الأتراك، قلّ عددُ المسلمين المؤدّين للصلوات المفروضة جماعةً في المساجد، وكانوا لا يفضّلون الذهاب إلى المساجد، ويصلّون صلواتهم في البيوت، حتى إن بعض المساجد أُغلقت لعدم توافد المصلين إليها.

بداية الانفراج.. ودموع الفرحة!

في عام 1941، حدث شيءٌ لم يكن متوقعًا، وهو ما قامت به الحكومة حول الأذان، إذ رفع الأتراكُ دعوةً وطلبًا للمحكمة برفع الحظر عن الأذان العربي، ووافقت المحكمة حينها على الطلب وقامت بالإفراج عن كل السجناء الذين حُبسوا بـ "جريمة" رفع الأذان بالعربية.

هذا القرار برفع الحضر جاء بعد ان اعترض الكثير ممن تضرروا بأن القرار غير دستوري ، بسبب عدم وجود ما ينص على حظر الأذان العربي في الدستور التركي.

لم يكن القرار مناسبًا للعلمانيين، وتحرّكت الحكومةُ في تركيا في ذلك الوقت، وتحديدًا عندما بدأت أصوات الأذان تعلو بالعربية، وأُصدرت قوانينُ صارمة حينها تنصّ على أن يُحبس المؤذّنون باللغة العربية من 3 إلى 10 أشهر وغرامة من 10 إلى 200 ليرة. وبعد فترة من الزمن ازدادت العقوبات حتى وصلت إلى تهجير المؤذّنين وضربهم وإرسالهم إلى المستشفيات النفسية والعقلية.

وهذه العقوبات استمرّت على هذا النحو حتى 16 حزيران/ يونيو من عام 1950، إلى أن جاء زعيم الحزب الديمقراطي عدنان مندريس وأعاد الأذان إلى العربية. لم يكن عدنان مندريس إسلاميًا، ولكنه فعل ذلك اعتمادًا على أن حظر الأذان منافٍ للعلمانية ومناقضٌ لمبادئها.

يروي لنا الآباءُ والأمهات المشهدَ الأول عندما أُلغي قانون منعِ رفع الأذان باللغة العربية، في ذلك الوقت الذي بدأ المؤذّنون يرفعون فيه الأذان المحمدي وعيونهم تذرف الدموع وأصواتهم يقطعها البكاء. كان المشهدُ حينها روحانيًا فالأتراك جماعاتٍ جماعات يذهبون إلى المساجد، ودموعهم تحضنُ بعضها البعض وهم يهلّلون ويكبّرون من شدّة فرحِهم.

كان المؤذّن يذهبُ إلى المسجد ويرفع الأذان ثلاثة أو أربعة مرات، ويختتم أذانه بدعاء الشكر.

بعد ذلك القرار من مندريس، استمرّ الأذان في الجوامع التركية باللغة العربية، ولم نسمعه منذ ذلك الوقت بالتركية، لأنه كان ظلمًا كبيرًا للمسلمين الأتراك.

لماذا الظلم؟

قد يكونُ سبب ظلم المسلمين في تركيا، وتحديدًا في عهد الحزب الواحد سخيفًا جدًا، لدرجة أنه يُذهل العقول.

مُنع في تركيا رفعُ الأذان باللغة العربية، في وقتٍ سُمح في دول العالم المختلفة أن يُرفع وبلغاتٍ مختلفة، كالصينية، والروسية، والإنجليزية، والفرنسية، إضافةً إلى لغات العالم الأخرى. هنا أتساءل، هل كان الكاثوليك يقومون بعبادتهم باللغة التركية أيضًا؟ وهل اليهود يعبدون آلهتهم باللغة التركية؟ وهل كانوا يؤدّون طقوسهم الدينية بالتركية؟ وهل يعبد الأرمنُ ربّهم بالتركية؟ قطعًا سيكون الجواب بـ "لا"! إذن لماذا تدخّلت الدولة العلمانية بعبادة المسلمين الأتراك؟ وماذا كانوا يريدون من ذلك؟ ألا يحقُّ للجميع أن يعبد خالقه على لسانه ولغة دينه؟

اسأل الله الكريم، أن لا يحرمنا من سماع الأذان المحمدي باللغة العربية في هذا الوطن.

عن الكاتب

زهراء كرمان

صحفية تركية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس