أحمد البرعي – خاص ترك برس

أنا لم أسكن الشام يومًا، ولا أزعم أن أهلها يؤمنون بأنها كانت جنة الله في الأرض ولكني أجزم بالعشق في عيون من أقابلهم من ربوعها، وعشقهم لترابها، وحنينهم لحاراتها وحكاياتها ولياليها ونسيم صباحها وتفاصيل أيامها. ما كان ليخطر يوما على بال بشر قبل أعوام قليلة أن يحدث ما نعيشه الآن من تهجير وقتل وتدمير، حيث أضحى الحديث عن هل تبقى سوريا أم تختفي؟! هل تحافظ سوريا على وحدة ترابها أم أنها أضحت من الماضي؟! ويا حسرة القلب وولعة الفؤاد عندما يجول في خاطرك فورًا تغريبة شامية أخرى (ففلسطين روح الشام) قاربت على السبعة عقود ولا زال المهجَّرون يحلمون بالعودة إلى سهولها وجبالها ووديانها، يحلمون بالعودة بعد أن احتضنت أراضي الغربة أجساد كل من ترك البلاد وهاجر ولا زال أولادهم وأحفادهم يتوقون شوقا لرشفة ماء من أنهارها وجلسة صفا على ضفاف شواطئها.

هل كان يظن ابن حمص أو حلب أو درعا أن يهيم بوجهه في شتى أصقاع الأرض باحثًا عن مأوى؟! هل كان يحلم ابن الشام يومًا أن يصبح غريبًا عن ذلك الخليجي – الدخيل على عروبة الخليج وأهله – الذي يأنف أن يستقبل أهل سوريا لأن ثقافتهم وطباعهم مختلفة؟!! في الوقت الذي استضافت الشام الآلاف إبان حرب الخليج. يا لمفارقة الزمن ويا لتقلب الأيام ويا لآهات الآلم عندما تسمع أن عاصفة الغبار التي اجتاحت شرق المتوسط كانت رحمة وغوثًا سماويًا إذ حجبت الرؤية عن قاذفي الموت وبراميله من طائرات الأسد وزبانيته.

بات أبناء سوريا غرباء مشتيين في بلاد الشرق والغرب وكان لتركيا بحكم الجوار ودماثة ساستها وطيب كرم أهلها النصيب الأكبر من استقبال أولئك الباحثين عن أمن وأمان ودام ذلك سنوات إلى أن بدأت موجات سفن الموت وطفق الناس يتوافدون أفرادًا وجماعات للهجرة إلى أرض الأحلام، القارة العجوز! فانطلقت احدى المحطات الإخبارية التركية إلى شواطئ بودروم التركية للوقوف على أسباب إقبال الشباب السوريين على الهجرة إلى أوروبا وعزوفهم عن البقاء في تركيا رغم ترحيب الأتراك وحفاوتهم بهم. وكانت الصدمة،،،

 أجاب بعض هؤلاء الشباب أحداث السن بلغة تركية وبلكنة عربية جميلة قائلًا "لقد أثقلنا على إخوتنا الأتراك، يكفيهم أنهم استقبلونا فترة طويلة، فعندما أتينا إلى تركيا كانت أسعار البيوت رخيصة ولكنها الآن ارتفعت بشكل جنوني من كثرة أعداد الوافدين من سوريا والعراق، فشق على ابن البلد التركي أن يجد بيتاً مناسباً بسهولة، كما أصبح الشباب التركي يجد من يزاحمه لقمة عيشه، وهذا ما لا نحبه ولا نريده، ولذلك قررنا ركوب البحار بحثًا عن فرص أوسع وأرض تحتاج إلينا أكثر مما نحتاج إليها" وأجاب آخر "بعض الأحزاب السياسية تتخذ من قضية اللاجئين السوريين ذريعة لانتقاد الطيب أردوغان ونحن لا نريد أن نكون الثغرة التي يؤتى منها أردوغان، فقد قدم للسوريين ما لم يقدمه غيره وكان نعم المضيف ونعم العون. نحن لن ننسى ما قدمته لنا تركيا وما بذله الطيب أردوغان من أجل إخواننا وأهلنا، وسنحدث عن أفعاله أبناءنا وأحفادنا. أما الآن فقد آن الأوان للسعي في أرض الله الواسعة".

وقعت مني هذه الكلمات موقع الاحترام والتقدير، إذ ليس المهم ما تقوله بل المهم هو كيف تقوله، ولقد أحسن هاذان الشابان في تقديم رسالة شكر وفي ذات الوقت رسالة تأنيب لضمير ابن البلد التركي الذي قد يجد في نفسه ثقلًا من الضيوف المهاجرين إلى بلده، فرسالة هذا الشاب تنم عن فهم وتقدير لظروف البلد الذي يستضيفهم وكيف يعز عليهم أن يثقلوا على أهلها، وأنه لولا الظروف القاسية ما كان لعزيز الشام أن ينزل ضيفًا ثقيلًا على أحد.

 قد ينزل في نفس البعض شيء من الامتعاض والتذمر حين يجد غرباء عن بلده، أو حتى عن مدينته، يشاركونه خيرات بلاده ويضيقون عليه في حركاته. ولك أن تتأمل فلسفة هذا المغترب السوري الصديق إذ يقول "أنا إن خرجت في المواصلات العامة وخاصة "المتروبوس"، وهو باص إسطنبول السريع المشهور بازدحامه الشديد، يقول إذا ما سنحت لي الفرصة بالجلوس أكره أن أتصفح الجوال لخوفي أن يأتي ذلك الهاجس في نفس من يقفون حولي من الأتراك متعبين ومرهقين وهم عائدون إلى بيوتهم مساءًا أو ذاهبون إلى عملهم صباحًا، أقول في نفسي لو كنت مكانه، ما شاء الله هذا أجنبي ويجلس وأنا ابن البلد وأقف على قدمي!! فأخشي بذلك أن يحمل في نفسه بغضًا للسوريين والعرب. وكذلك وإذا ما اتصل علي صديق عربي أتجنب الحديث وأنا جالس لذات السبب. وإذا ما أردت الخروج مع عائلتي أفضل أن أستقل سيارة الأجرة على استخدام المواصلات العامة حتى لا أثقل على إخواني من الأتراك.

قد يرى البعض، وأنا منهم، أن هذا الصديق يسرف في الحرص على مشاعر الآخرين ويقسو على نفسه دون داع لذلك، فأمريكا أرض الأحلام هي خليط من كل الأعراق والأجناس وهذا ما جعل منها وجهة الحالمين والباحثين عن الفرص، فليس لتلك الحساسية الزائدة من سبب فالأرض أرض الله وكل يعمل ويتعب وله حقوق وعليه واجبات وهذا هو الحاكم والناظم لأي بلد بغض النظر عن العرق أو اللون أو الدين. ولكن ما شد انتباهي هو منطق وفلسفة الرجل في موقفه فهو يرى أنه بداية لا يريد أن ينقل صورة سيئة تؤثر بأي حال على إخوته المغتربين العرب، وفي ذات الوقت يحرص على مشاعر أهل البلد وفهم ثقافتهم ومراعاة مشاعرهم، إذ قد يكره الإنسان بلدًا كاملًا وينفر من طائفة أو جماعة من تصرف شخص واحد فيها، وهذا ما قد يحدث من البعض بقصد أو بدون قصد، فقد استرعى انتباهي تغريدة لأحد الأصدقاء السوريين الذي قال فيها إن أصدقاءه الأتراك يستغربون من بعض السوريين الذين يشعرون منهم بتعال وتكبر في المعاملة دون سبب أو داع وأنهم – الأتراك – يحرصون على عدم جرح مشاعر السوريين إلا أن الأخيرين لا يراعون ذلك ويتحدثون بالسوء عن عقول الأتراك وعاداتهم السيئة وطباعهم الغريبة.

يحرص الإنسان دائمًا على أن يكون نعم السفير لبلده وخير مثال عن أهله وربعه فهو حتمًا سيعود وهذه التغريبة لن تطول وما أجمله من منطق وفهم من أحرار كفر نبل إذ يغردون لأولئك الراغبين في هجرة البلد والنجاة بأرواحهم "لن أدعوكم للبقاء فقد ارتويت بدمائكم فقط أرجوكم أن تتذكروا: يوماً ما سأحتاج سواعدكم. أنا سورية، أنا الوطن. لله دركم ما أعظم تضحياتكم".

عن الكاتب

د.أحمد البرعي

باحث ومحاضر في قسم الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة أيدن


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس