شاهر أغبارية - ترك برس

حيدر باشا محطة القطارات الاخيرة في سكة قطار الحجاز، تلك التحفة المعمارية التي تقف شامخة متقدمة  غرة  آسيا نحو أوروبا تشهد على ابداعات ذلك الزمان، وتخلد لأعظم مشاريع البنى التحتية للدولة العثمانية في زمن السلطان عبد الحميد الثاني، هذا المشروع كلف خزينة الدولة المثقلة بالديون الخارجية مبالغ خيالية، لكنه كان مشروعا استراتيجيا لا غنى عنه في مسيرة الاصلاح والنهوض من جديد التي سعى اليها السلطان عبد الحميد الثاني، فإصلاح البنى التحتية هي من أهم أسس التنمية لأي أمة عدا عن الاهداف العسكرية والاقتصادية والدينية للمشروع، كان الهدف الاسمى للسلطان هو زيادة الترابط بين الشعوب الاسلامية المنضوية تحت راية الخلافة العثمانية، فهو من نادى بمشروع الجامعة الاسلامية كحل عملي لإيقاف التدهور المستمر للدولة العثمانية وانقاذ الامة من التشرذم والتفتت في ظل التأثير الغربي على كيانات داخل الدولة العثمانية وإثارة النعرات القومية.

كان هذا المشروع مشروعا عالميا، ربط الشرق بالغرب، فحيدر باشا المحطة الاخيرة فيه كانت على خليج كاديكوي لتخدم القادمين من المنطقة الاوروبية، وكان السلطان يخطط لمشروع نقل بري تحت مائي يربط منطقة إمينينو في الجزء الاوروبي بمنطقة أوسكودار في القسم الاسيوي، اما اليوم فنحن نعيش تلك الايام من جديد لكن بمشروع يربط الشرق بالغرب من الجو بدلا من البر، أنه المطار الثالث في اسطنبول، وكذلك نفقي "مرمراي" و "أوراسيا" للنقل البري تحت البوسفور.

استوقفني حال سكة قطار الحجاز اليوم! لماذا هذا المشروع رغم حجمه والحاجة الملحة اليه، تفكك وتفككت معه الدولة التي أنشأته؟

لقد عاشت الامة في زمن المشروع الاول في ظل حقود خارجية تاريخية ومؤامرات داخلية ، فلم يسمح فيها أعداء الماضي لأنفسهم ان يضيعوا فرصة ضعف الدولة التي يكرهونها والاجهاز عليها، فكثرت الحروب الروسية على الدولة العثمانية وازدادت المؤامرات الداخلية، ورغم محاولات الاصلاح  الحثيثة التي سعى اليها السلطان عبد الحميد الثاني الا ان الدولة لم تستطع الانتظام كدولة قوية من جديد لأسباب عدة وعلى رأسها جهل البعض وسذاجتهم في التعاطي مع الواقع من حولهم وعدم ادراكهم لحجم المؤامرة التي تستهدفهم فنجح الطابور الخامس بأن يستغفلهم ويستعملهم كأدوات للغزو الفكري، السلاح الوحيد الذي بقي للغرب لإسقاط الدولة العثمانية.

كان الهدف الاول هو تحطيم الدرع الذي حمى هذه الامة من عهد الرسول الى عهد السلطان عبد الحميد الثاني، الا وهو اعتزاز المسلم بدينه وماضيه لبناء مستقبله، ثم الهدف الثاني وهو إثارة النعرات القومية لتفتيت شعوب الامة وجعل كيدها فيما بينها بدلا ان يكون تجاه عدوها المشترك وبالتالي الاستفراد فيها كل على حدة، فعملوا على ترسيخ فكرة أن تركيا لن تنهض الا بالتخلي عن حضارة العثمانيين والانسلاخ عن الدين كمرجعية اساسية في نظام الحكم وتبني النموذج الغربي بحذافيره، وفعلا إزداد المد القومي بين الشعوب، لم يمانع السلطان بنقل التجارب الناجحة من الغرب والاستفادة منها للنهوض بالأمة لكن دون التخلي عن الهوية والحضارة والدين، ولم يقبل ان تستمر التبعية للغرب فجند الاموال للمشروع من كل انحاء العالم الاسلامي كي لا يستقرض من الغرب، ونادى الى مشروع الجامعة الاسلامية لإيقاف المد القومي الذي رأى فيه انه سيهلك الدولة بتفريق وحدة الشعوب التي شكلت الدولة العثمانية، وفعلا ظهرت شريحة منهزمة في انتماءها لحضارتها ودينها وغير مدركة لحجم المؤامرة التي حيكت لها، ووقعت في شباك قوى عاشت كالطفليات قرون في جسم الامة متخفية ونجحت بعملها الدؤوب بتفتيت الامة بدعوى القومية وبالتالي تدمير وازالة كيان العثمانيين واستمرت في محاولة سلخ الدين والتنكر للإرث التاريخي، فنادى التركي بتركيته فتعصب العربي لعروبته وتعصب الكردي لكرديته، وهكذا في سنوات قليلة ضاع ما بني على مدار مئات السنين ليتحارب اخوان الامس بعد ان فرقتهم دعوى القومية، وتشكلت حدود ما عرفناها وضاعت السكة بين تلك الحدود، وتحولت حيدر باشا من محطة ربطت اسطنبول بالمدينة المنورة وجمعت شعوب المنطقة في أعظم رمز ديني لهم الى محطة قطارات محلية!

اليوم، المتابع لبرامج حزب العدالة والتنمية والمشاريع العملاقة التي ينجزها ويخطط لها من السياسة الخارجية بالانفتاح على الامة والاستغناء عن التمويل الخارجي والاستفادة من التطور الغربي وبناء الذات بشكل مستقل مع اعتزاز بالحضارة والدين يستذكر السلطان عبد الحميد الثاني وكأن هذا  هو الحزب الذي بحث عنه ولم يجده في زمانه في مقابل احزاب فتنت آنذاك بالحضارة الغربية فتنكرت لدينها وحضارتها لتحصيل النهضة بينما جاء هذا الحزب ليلحق بالغرب وينافسه مع اعتزاز بالحضارة والدين والتعامل بالندية لا التبعية، واصلاح أمراض القومية التي فتفت جسد الامة الواحد، وفرقت من تشاركوا في الدم والدين على مدار مئات السنين.

قال تشرتشل " التاريخ يكتبه المنتصرون" وأظن أن أعظم معركة في القرن الماضي هي سقوط الدولة العثمانية وتفتت الدول الاسلامية الى دويلات لا زالت تدفع ثمن تفرقها ونكرانها لماضيها ودينها، كانت تلك معركة مؤامرات تغذت من جهل ابناء الامة بواقعهم وكيد اعدائهم لهم, فلا عجب أن يكون تاريخ تلك الحقيبة من الدولة العثمانية قد واجه كثيرا من الظلم والتشويه وعلى رأسه تاريخ السلطان عبد الحميد الثاني، الذي ندين له نحن أهل فلسطين بكلمته المشهودة التي تصور لنا عظم وهمة تلك الشخصية العظيمة وحرصها على وطنها ووحدة شعوبها  "لان يعمل المبضع في جسدي اهون علي من تمزيق بلاد المسلمين, فلسطين ليست ملك يميني لأتنازل عنها انها ملك المسلمين و لن تستطيعوا اخذها ما دامت الخلافة قائمة, وتستطيعون اخذها وبدون مقابل فقط اذا سقطت دولة الخلافة"، أتمنى ان اكون قد وفقت في انارة شمعة من التاريخ المشرف لذلك الرجل ودعم حلمه العظيم في استعادة الامة لنهضتها وقوتها دون الانسلاخ عن ماضيها ودينها الذي اراه ايوم يتمثل في حزب العدالة والتنمية، وأقول لجدي عبد الحميد نم قرير العين، فأبناءك الاتراك اليوم واعون لحجم المؤامرة أكثر من ايام الظلام التي عاشتها بلادنا في زمانك، ويعلم أبناءك الاكراد اليوم ان حقوقهم وتحقيق ذاتهم أقرب بانتمائهم لدينهم وأمتهم فالقومية سفكت دمائنا جميعا، أما أبناءك العرب فقد تجرعوا كأس السم في سايكس بيكو وها هم ينتفضون تواقون لإعادة اللحمة واستعادة الامجاد، أما حبيبتك فلسطين التي دفعت وأهلك ثمن لها تشتاق اليك، وتحن الى أبناءك الصادقون أمثالك، وهم الحمد لله موجودون اليوم، وسينصفونك بأذن الله ليعاد كتابة تاريخك الناصع بيد المنتصرين.

لقد حاول السلطان عبد الحميد الثاني لكن الجهل كان كبيرا والمؤامرة عظيمة ولم ينجح، واليوم تكشفت المؤامرات وبانت عيوب القومية وكيف فتت الامة الواحدة والبلد الواحد، وبانت عيوب الانسلاخ  عن الدين في الوقوع في أحضان المتآمرين، واليوم لم يعد للجهل مكان، فقد جاء الطيب وإخوانه وأسسوا حزب العدالة والتنمية وأوصلوا الرسالة بان النهضة ممكنة دون التنكر للحضارة والدين، وانت ايها الناخب هو من سيقرر هل هو مستقبل زاهر متصل بحضارة نعتز بها ودين يعيد لحمتنا أو ستعود المؤامرات ونرجع تبعا للغرب وبدلا من انشاء اتحاد يجمعنا سنزداد فرقة حتى في الوطن الواحد وهل سيصبح المطار الثالث مجرد مطار محلي لا حاجة له كما صار الحال في سكة قطار الحجاز لأنه يتعارض وما رسمته مخططات الغرب لمنطقتنا.

فهل سنكون أوفياء لتاريخنا وحضارتنا ام سنعطي الفرصة لأذناب الغرب والمتآمرين بهدم ما بنيناه من جديد!

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس