محمود سمير الرنتيسي - الجزيرة نت

حتى أيام قليلة قبل بدء الهدنة المؤقتة بين الاحتلال الإسرائيلي والمقاومة الفلسطينية، بقيادة حركة حماس، واصلت عائلات الأسرى الإسرائيليين- المحتجزين لدى المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة- مسيراتها أمام مبنى وزارة الدفاع الإسرائيلية في تل أبيب والقدس الغربية بمشاركة عشرات الآلاف من أجل الضغط على رئيس الوزراء الإسرائيلي الذي ظلّ يكرر أن قواته ستواصل حربها على غزة حتى تحرير هؤلاء الأسرى بالقوة.

وقد خسر الاحتلال، وفقًا لاعترافاته، أكثر من 70 جنديًا في داخل قطاع غزة، إذ يتوقع أن العدد الحقيقي للقتلى هو عدّة أضعاف هذا الرقْم، إضافة إلى آلاف المصابين ومئات الآليات المدمّرة.

وقد كانت الخسارة الكبرى- بالنسبة لأهالي المحتجزين- مقتلُ العديد من المحتجزين خلال عمليات القصف الإسرائيلي على المنازل في قطاع غزة، حيث أشارت تصريحات المقاومة إلى مقتل 60 منهم خلال القصف الإسرائيلي، وهذه نتيجة، وحدها، تشير إلى فشل خيار تحرير الأسرى بالقوة في غزة.

وبالطبع كانت الهدنة- التي استمرت 7 أيام منذ 24 نوفمبر/ تشرين الثاني- دليلًا عمليًا على انهيار مسار تحرير المحتجزين في غزة بالقوّة، بعد أن فشلت قوات الاحتلال الإسرائيلي عمليًا في فعل أي شيء، كما فشلت كل رواياتها ومعلوماتها التي روّجت أن المحتجزين وقيادة حركة حماس يتواجدون في مقرات تحت مستشفيي الشفاء والرنتيسي، وهو ما ثبت كذبه أمام مرأى العالم كله.

فشل التحرير بالقوة تاريخيًا

على مدار التاريخ، كان هناك العديد من المحاولات الفاشلة في تحرير الأسرى، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل أدّت هذه المحاولات إلى نتائج عكسية؛ كان أولها إيقاع قتلى وجرحى في الطرف المهاجم، أحيانًا تكون أكثر من عدد الأسرى الذين كانت تتم محاولة تحريرهم، وفي أغلب الأحيان كان الأسرى أنفسهم يتعرّضون للقتل.

كما تؤدي محاولات تحرير الأسرى بالقوّة إلى زيادة احتمال تصاعد النزاع، وفقدان الثقة؛ مما يؤدّي إلى خروج الأمور عن السيطرة. وعلى سبيل المثال حاولت القوات الروسية في الحرب العالمية الأولى تحرير أسرى الحرب من معسكرات الاعتقال الألمانية؛ مما أدّى إلى معركة "كورسك" التي انتهت بهزيمة القوات الروسية.

وفي الحرب الأهلية الأميركية حاولت القوات الاتحادية تحرير الأسرى من معسكرات الاعتقال الكونفدرالية؛ مما أدّى إلى معركة "سبرينغفيلد" التي هُزمت فيها القوات الاتحادية.

وبالنظر إلى النتائج العلمية حول هذا الموضوع، فقد وجدت دراسة علمية لجامعة "هارفارد" 2015- اعتمدت على التحليل الإحصائي- أن نسبة نجاح تحرير الأسرى بالقوة تبلغ 20% فقط.

فيما أثبتت دراسة لجامعة "كامبريدج" عام 2017- اعتمدت على دراسة حالات مخصصة- أن نسبة نجاح تحرير الأسرى بالقوة تبلغ 15% فقط، فيما وجدت دراسة في جامعة "أكسفورد" عام 2019 بعنوان: "تحرير الأسرى بالقوة: تحليل تكلفة الفائدة"، أن تحرير الأسرى بالقوة غالبًا ما يؤدي إلى تصعيد النزاع وزيادة الخسائر البشرية.

فشل على المستوى العملي

على المستوى العملي، لم تستطع دولة الاحتلال- تاريخيًا- النجاحَ في تحرير أسرى لها لدى منظمات فلسطينية أو حتى دول عربية، إلا من خلال المفاوضات التي كان آخرها الهدنة المؤقتة في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، وصفقة غلعاد شاليط في 18 أكتوبر/تشرين الأول 2011 مع حركة حماس، وصفقة "النورس" عام 1983 مع الجبهة الشعبية القيادة العامة، وقبلها صفقة أخرى أيضًا مع الجبهة الشعبية عام 1979.

فعلى سبيل المثال أدّى استخدام أسلوب تفاوض قطعي إلى فشل صفقة تبادل حول الطيار الإسرائيلي رون أراد الذي وقع في الأسر عام 1986، وانقطع الاتصال مع الآسِرِين إلى يومنا هذا، وما زال كل من يقوم بأسر جنود إسرائيليين- للتفاوض لإخراج أسرى فلسطينيين مقابلهم- يذكّر الاحتلال بتعامله مع قضية رون أراد.

ولهذه الحادثة بُعد خاص برئيس الأركان الحالي هرتسي هليفي الذي كان مشاركًا في عملية اختطاف القيادي في حركة "أمل" مصطفى الديراني عام 1994 للحصول على معلومات حول رون أراد، لكن الاحتلال لم يحصل على شيء، بل إن الديراني خرج عام 2004 في صفقة تبادل.

وفي عام 1992 رفض رئيس الوزراء حينها إسحاق رابين الإفراجَ عن الشيخ أحمد ياسين، مقابل إطلاق سراح الجندي نسيم توليدانو، وبعد انتهاء مهلة كتائب القسام، التي حُدّدت بعشرة أيام، تم قتل الجندي.

وبالمناسبة، فقد قامت حكومة الاحتلال بإبعاد 415 قياديًا من حركة حماس إلى "مرج الزهور"؛ ردًا على هذه العملية، وقد كانت النتيجة عكسية تمامًا، حيث وفّرت عملية الإبعاد لقاء جامعًا لحركة حماس، ساهم في توحيد فكر وقرار الحركة وتماسكها.

وفي عام 1994 رفضت حكومة الاحتلال الإسرائيلي التعاطي مع مطالب حركة حماس، التي قامت بأسر الجندي نحشون فاكسمان، وفي النهاية قُتل الجندي، وقُتل وأصيب عدد من الجنود الإسرائيليين الذين حاولوا تحريره بالقوة، ولا تزال هذه الحادثة عالقةً في عقل صانع القرار لدى حكومة الاحتلال، وتحديدًا هرتسي هليفي الذي كان عضوًا في وحدة "سيريت ميتكال"، التي كانت تحاصر المنزل الذي تواجد فيه الجندي.

وفي عام 2014 أسرت حركة حماس الجنديَين أرون شاؤول، وهدار غولدن، في كمين عسكري. وفي 2016 أسرت كتائب القسام أبراهام منغستو، وهشام السيد، ولا يزال الاحتلال يماطل في تحقيق اتفاق تبادل بخصوصهم؛ مما جعل مصيرهم أقرب إلى مصير رون أراد.

إنّ الحالة الوحيدة في تاريخ الصراع التي نجحت فيها دولة الاحتلال، نسبيًا، في تحرير رهائن لم تكن في فلسطين، ولم تكن نجاحًا في الحقيقة بالمحصلة الكلية، وجاءت بعدما اختطف فلسطينيان من الجبهة الشعبية في عام 1976 طائرة ركاب على متنها 103 إسرائيليين، وانطلقا بها من مطار أثينا إلى مطار عنتيبي في أوغندا، وقد كان أحد أسباب نجاح التحرير بالقوة هو إيهام الآسِرَين أنها تتفاوض معهما، وعلى وشْك الاستجابة لمطالبهما في إطلاق 53 أسيرًا فلسطينيًا، ومع ذلك قتل الكوماندوز الإسرائيلي 20 جنديًا أوغنديًا، كما قتل خلال العملية الضابط جوناثان نتنياهو شقيق بنيامين نتنياهو، إضافةً إلى 3 محتجزين إسرائيليين آخرين.

وبهذا فقد قُطعت العلاقات بين أوغندا وتل أبيب، وتسبّب المهاجمون في قتل 3 رهائن إسرائيليين، أحدهم يظل محفورًا- على وجهٍ خاص- في ذاكرة نتنياهو نفسه الذي يقود اليوم عملية صنع القرار، فيما يتعلق بتحرير المحتجزين والأسرى الإسرائيليين في قطاع غزة.

وبهذا يمكننا القول إنه إذا أثبتت دراسات في 3 جامعات مرموقة أن نسبة تحرير الأسرى بالقوّة تصل إلى 15- 20%، فإن نسبة نجاح الاحتلال الإسرائيلي في تحرير أسرى داخل فلسطين بالقوة- وتحديدًا من أيدي كتائب القسام- محصلتها صفر.

وإذا اعتبر البعض أنّ عملية عنتيبي مثالٌ لعملية ناجحة في تحرير الأسرى بالقوة، فإن قطع العلاقة الدبلوماسية مع أوغندا، ومقتل ضابط مهاجم كبير، و3 محتجزين إسرائيليين كنتيجة لهذه العملية، يشكّك ذلك في نجاح هذا المثال بدرجة كبيرة.

في الواقع، يقع الاحتلال في مأزِق كبير أمام قضايا أسر جنوده ومستوطنيه، فهو في الحالتَين سيكون خاسرًا لا محالة؛ سواء بقبوله بمطالب قوى المقاومة الفلسطينية، وتنفيذ صفقات التبادل، أو باتباعه العناد والعُنْجُهية، والسعي لتحرير الأسرى بالقوة؛ مما يوقعه في خسائر قد تفوق حساباته، وفي نتائج أثبتت التجربة العلمية والعملية أنها لن تكون لصالحه في النهاية.

لقد كتبت سطور هذا المقال قبل إعلان "القسام"- خلال العدوان الحالي على غزة- مقتل الأسير الإسرائيلي باروخ ساعر، وإصابة ومقتل عدد من القوة الإسرائيلية التي حاولت الوصول له عبر التسلل للمكان بواسطة سيارة إسعاف تتبع منظمة إنسانية؛ مما يعطينا دليلًا عمليًا حديثًا، ليس على عدم قدرة الاحتلال الإسرائيلي على تحرير أي أسير فحسب، بل خسارته المتزايدة خلال محاولاته والتكريس لفشله في هذا الملف.

وَفقًا للتجرِبة التاريخية والعلمية، فإنّ الاحتلال لن يحصل على أي من أسراه من يد المقاومة، إلا من خلال الموافقة على شروط المقاومة، ويكفي نتنياهو وهليفي- على وجه الخصوص- نسيان إمكانية تحقيق أي نجاح يغطي على فشلهما الحالي والسابق.

عن الكاتب

محمود سمير الرنتيسي

باحث في مركز سيتا للدراسات بأنقرة


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس