أحمد البرعي - خاص ترك برس

ما إن ينجح مرشح ذو مرجعية إسلامية حتى ترتفع الأصوات تنادي بعدل الفاروق "عمر" رضي الله عنه، وسرعان ما ترتفع الأصوات منتقدة أين أنتم من "بغلة العراق" (لو عثرت بغلة في العراق لسألني الله لمَ لم تصلح لها الطريق يا عمر) وتغدو أحلام الخلق المطالبة بالمثالية والكمال في كل شيء، مع علمهم القاطع بقصور الواقع ووعورة التضاريس الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لمجتمعاتهم، إلا أنه من الغريب أن ترى هذا التوجه العام الذي قد لا يقتصر على منطقة بعينها بل يمكنك تعميمه على أي دولة يحدث أن يصعد إلى سدة حكمها حزب ذو مرجعية إسلامية.

لعل هذا يدفعنا للتساؤل، هل على الإسلاميين التخلي عن إعلاء شعار المرجعية الإسلامية في برامجهم، كي لا تُستحضر الصورة النمطية عند العامة والتي تربط شعار "الإسلام هو الحل" بكمال العدل والمساواة ومبادئ الخلافة الراشدة التي تعلي الحقوق وتضمن حياة كريمة للإنسان؟ أم هل على العامة أن ينزلوا من أبراج خيالاتهم العاجية الطوباوية في التعامل مع الإسلاميين على أنهم ملائكة لا يقبل لهم خطأ، ولا تغتفر لهم صغيرة ولا كبيرة بل ولا يسري عليهم ما يسري على الآخرين؟ ويا لغرابة ذلك المنطق الذي يلوك أصحابه "الكليشيه" البغيض: هو يساري ونعرفه لكن هؤلاء إسلاميون، الخطأ أكبر وأعظم والصغيرة منهم كبيرة والذنب منهم جريمة.

بناء على هذا التصور المغلوط تُبنى التقييمات لأداء الأحزاب السياسية التي تتمتع بمرجعية إسلامية ولو نسبيًا، فمثلًا في تركيا، حزب العدالة والتنمية يُنتقد أشد النقد في قضية كقضية "جيزي بارك" ويتهم اتهامات خطيرة بمحاولة "انقلابية" لتغيير طبيعة الحديقة وخلع أشجارها!! وتثور ثائرة أحزاب المعارضة، وتركب الموجة الجماعات الإرهابية، كحزب العمال الكردستاني، وتغني على ليلاهم عامة الناس أو حتى متثقفيهم، فيصدقوا ويبدؤوا بالطنطنة على وتر المحافظة على البيئة وضرورة حفظ التوازن البيئي وغيره، مع علمهم وكامل درايتهم أن إسطنبول كانت لا تطاق قبل قدوم العدالة والتنمية، ولم يكن فيها أشجارًا ولا خضرة فضلًا عن ملايين الورود التي تغطي الميادين العامة في عصر العدالة والتنمية، ولكنه هو ذاته المنطق الأعوج.

مؤخرًا انسحبت هذه الظاهرة على تقييم أي اجتهادات حزبية صغيرة كانت أو كبيرة، فاستغرب البعض من كم التصفيق والترحيب والتهليل، في اللقاء الحزبي الخامس لحزب العدالة والتنمية، الذي استقبل فيه شباب الحزب "طوغرول تركش" ابن المؤسس التاريخي للحركة القومية، وهو"المطرود" منها مؤخرًا.

لتتعرف على قصته

كان "تركش" ابن حزب الحركة القومية المعارض قد قبل بالمشاركة، دون موافقة من حزبه، في "حكومة الانتخابات" المؤقتة التي تدير الجمهورية التركية الآن تحضيرًا للانتخابات المزمع عقدها في الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر القادم، ويشغل في الحكومة الحالية منصب نائب رئيس الوزراء. وفي الوقت الذي أعلن فيه استقالته من حزب الحركة القومية، كان نائب رئيس حزبه يعلن فصله نهائيًا من الحزب واستحالة قبول ترشحه على قوائمه. وكان قد سبق هذا الفصل التعسفي تهديدات باتخاذ اجراءات عقابية في حق العضو وذلك إثر قبوله المشاركة في الحكومة، قابلها "تركش" بتصريحات نارية اتهم فيها مهاجميه من حزبه بالسكارى وأبناء آوى.

يرى بعض الحالمين الطوباويين أن هذا الرجل قد كان بالأمس القريب صاحب لسان سليط على العدالة والتنمية، إذ إنه ينتمي لحزب الحركة القومية الذي يرى في عملية السلام الداخلي بين الأكراد والأتراك مضيعة للوقت، وخطأ تاريخي لا يغتفر لحزب العدالة والتنمية بل وكان يحمل العدالة والتنمية مسؤولية ما وصلت له البلاد بسياسته الرخوة تجاه إرهابيي الجبل الكردي، كما ويرفع حزبه الراية القومية التركية، ولا يعترف بأي كيان كردي على أرض الجمهورية التركية.

ولكنه اليوم أضحى نائبًا لرئيس الوزراء التركي ومرشحًا على قوائم العدالة والتنمية، وقد يصبح أحد أعضاء البرلمان عن حزب العدالة والتنمية، طبعًا هذا في حال نجح في الانتخابات القادمة. بالطبع إن هذا الطرح ليس مستبعدًا، ولكن ليس الأمر بتلك البساطة ليتنازل الرجل عن مبادئه وأيدولوجيته القومية، بل على الأرجح سينجح كنائب مستقل على قوائم العدالة والتنمية. ولكن في ذات الوقت يعد هذا الاستقطاب لأحد أقطاب المعارضة مكسبًا سياسيًا للعدالة والتنمية إذ سيجلب ليس فقط أصوات أنصار الحركة القومية إليهم، بل سيرسل رسالة بشمولية واتساع أفق الحزب الحاكم وترحيبه بألد معارضيه وهذه سمة افتقد لها الحزب في الصراع السياسي الانتخابي السابق، إذ غلب عليه الحدة والصرامة في اللهجة والخطاب.

ما المستهجن في استقطاب رمز يساري أو قومي إن كان في ذلك مصلحة سياسية؟ هل يجب أن نسقط أحكامًا صاغها البعض في مخيلته على أنها قوالب فقهية مؤسسة على الولاء والبراء ولا يجب معها المهادنة ولا المداهنة مع الآخر أيًا كانت الظروف. ثم إن غرق المركب، خرجت ألسنتهم حداد أشحة على الخير تقول وما منعهم أن يسلكوا سبل السياسة والاستيعاب وهم في سعة من أمرهم؟ هم أهل السياسة، وهل يلقون السمع لكل ما يقال هنا وهناك وهنالك؟ يجب أن يفهموا أن العمل السياسي يحتكم لطبيعة البلد وظروف المرحلة واجتهادات أصحاب الحل والعقد فيها، وليس لأحاديث المتفيقهين والمتنطعين وشطحاتهم الطوباوية!!! وبذلك يتحمل الحزب السياسي تبعات قراراته والمسؤولية الكاملة عن اختياراته فإن نجح تنهال عليه عبارات المديح والتقدير وإن تعثر تسن عليه سكاكين الناقدين والمتنطعين.

في ذات السياق، تتصاعد هذه الأيام في الأوساط السياسية التركية أصوات، ويكأنها أحلام وتمنيات، تتكلم عن انقسامات في صفوف حزب العدالة والتنمية، فذا يحدثك عن اللقاء المتلفز لـ "بولنت أرنتش" نائب رئيس الوزراء التركي السابق، ومن أبرز أركان الحرس القديم والمؤسسين الأوائل القادمين من "ميلي جوروش" مع الطيب أردوغان وعبد الله غُل، يعرب في لقائه التلفزيوني عن امتعاضه من بعض التصرفات الحزبية فيقول "كنا قديما نقول "نحن" أما الآن فنقول "أنا" وهذا ما لا أود أن أراه في الحزب الذي أنتمي إليه ولا زلت". فسر البعض ذلك على أنه تصريح بالهيمنة الواضحة للطيب أردوغان على كل تفاصيل الحزب حتى بعد أن خرج منه وأصبح رئيسًا للجمهورية.

"بولنت أرنتش" لم يدرج كمرشح على القوائم الانتخابية لحزب العدالة والتنمية وذلك رغم رفع الحظر عن ترشح الأعضاء لأكثر من ثلاث دورات برلمانية، وهو القامة والمكانة، ولكن اسمه لم يدرج على القائمة. يا ترى هل هذا ما أثار امتعاض الرجل؟

كان "بولنت أرنتش" قبل عدة أسابيع سبقت الانتخابات السابقة قد شن هجومًا لاذعًا على "مليح جوكتشاك" رئيس بلدية أنقرة وهدد بفتح ملفات تدمر الأخير سياسيًا، وألمح إلى أن "جوكتشاك" قدم الكثير من التنازلات من أجل أن يضمن نجاح ابنه في الانتخابات البرلمانية السابقة، ولكنه سرعان ما تنازل عن ذلك إكرامًا للعلاقات الأسرية المتينة التي تربط العائلتين، ونزولًا عند رغبة رجالات الحزب بعدم شق الصف. كان أيضًا أرنتش قد صرح أنه كثيرًا بل وكثيرًا جدًا ما أغضب أردوغان بتصريحاته وتصرفاته. وأضاف: وهذا ما يجب أن يكون، فإن وافق المرؤوس رئيسه في كل أفكاره فأحدهما يجب أن يغادر. وهذا منطق يُقدر ويُحترم في الحقيقة من رجل لا يجامل في طرح أفكاره واعتراضاته بأدب قبل السبب.

استبق الرجل، عن غير قصد أو ترتيب كما ذكر في اللقاء، المؤتمر بليلة واحدة ليخرج ما في جعبته، فأعرب عن تذمره وعدم رغبته في المشاركة في اللقاء الحزبي الخامس لحزب العدالة والتنمية، واعتذر أيضًا عن عدم الترشح للانتخابات القادمة، إذ يرى أنه بحاجة إلى فترة نقاهة واستجمام من العمل البرلماني، ولكنه مستعد للعودة إن استُدعي من قبل الحزب بأسلوب يختلف عن ذلك الذي اتبعه الحزب قبيل الاجتماع الدوري الخامس له. فلا يليق، على حد قوله، أن يُرسل للرئيس التركي الحادي عشر "عبد الله غُل"، أو لنائب رئيس الوزراء، يقصد شخصه، دعوة كتابية أو تغريدية أو رسالة قصيرة، وكأنه ضيف على اجتماع الحزب وليس مؤسسًا من مؤسسيه.

وفي معرض إجابته عن سؤال هل يمكن أن تؤسس ورئيس الجمهورية عبد الله غُل حزبًا سياسيًا جديدًا؟ أجاب بأنه ابن العدالة والتنمية وجندي فيه ويأتمر بأمر رئيسه داود أغلو ولكن... على الآخرين أن لا يمتحنوا هذا الولاء والوفاء للعدالة والتنمية، وليعرف كل حده ومكانته. وهذا ما فتح الباب للتساؤلات والتكهنات بصراع الأجنحة داخل حزب العدالة والتنمية، فمن جهة هناك "الأردوغانيون" نسبة للطيب أردوغان وهناك "الغولجيين" نسبة لعبد الله غُل وهناك "الهوجاجيون" نسبة للهوجا، أي الأستاذ، أحمد داود أغلو. وما يعزز هذه التساؤلات عند البعض كتاب "اثنا عشر عامًا مع عبد الله غُل: عشت وشاهدت وكتبت" والذي أصدره  أحد مستشاري غُل "أحمد سافار" وتطرق فيه إلى بداية اختلافات في الرؤى وطريقة التعاطي بين "غُل" و"أردوغان"، خاصة بعد أحداث "جيزي بارك". تجلت هذه الاختلافات في عدد من القضايا كالعلاقات الخارجية بشكل أساسي، ومراعاة أحكام القضاء بشكل أكثر دقة في التعاطي مع قضايا الكيان الموازي وما يعرف بالدولة العميقة.

لماذا يريد أن يحتكر البعض أن هذه الصراعات الحزبية الطبيعية على الأحزاب دون الإسلامية، ويعتقد أنها صحية وتطهيرية ونقدية وإذا ما حدثت مع أحزاب ذات مرجعية إسلامية، بادروك بنغمة أنه لا يجب على الإخوة أن يختلفوا "ولا تفرقوا فتذهب ريحكم" وفي ذات الوقت لماذا يريد بعض الإسلاميين، بحجة عدم شق الصف التستر على هذه الخلافات التي تثري الحياة الحزبية والسياسية؟! هل آن الأوان للتصدي للعمل السياسي بمرجعية أخلاقية ومبادئ مهنية ومعايير حزبية بعيدًا عن العمل الدعوي أو التنظيمي؟! هل آن الأوان أن نتعامل مع العاملين في المجال السياسي والحزبي على أنهم عاملين في مجال الخدمة العامة، بغض النظر عن أي من مرجعياتهم أو أيدولوجياتهم؟! هل آن الأوان أن نعتمد تقييم الأداء الموضوعي بغض النظر عن أي اعتبارات أخرى؟ هذه ليست دعوة لفصل الدين أو المرجعية الإسلامية عن السياسة ولكنها دعوة لقراءة واقع مختلف للتعاطي مع الفقه السياسي في مجتمعات نتصور في خيالاتنا مثاليتها وجهوزيتها لا نزال قواعد لا تتناسب وواقعها المعاصر وقضاياها المعقدة.

عن الكاتب

د.أحمد البرعي

باحث ومحاضر في قسم الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة أيدن


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس